خالد الأمين- كاتب
#تشاد
“قارب يلاحق مرساه”
عند استهلالي في قراءة رواية جدي، انتابني شعور بأنها ستكون رواية أو حكاية من حكايات قصص الحب المبتذلة، وستجري أحداثها بين إثنين تمرغهما الحياة بقسوتها، وتمتحن صدق حبهما، عاشقان يعيشان قصة من الخيال، ويقتاتان على بصيص من الأمل، يسوقهما الأقدار إلى مستقبل يكلل قصتهما بالنجاح، والزواج، أو وخيم محاط بحائط سرمدي يمنعهما من التلاقي وتحقيق أحلامها سويًا..
ولكن” قارب يلاحق مرساه” جاءت صادمة ضد توقعاتي، فقد كانت ملحمة إنسانية لتوتولا الجنوبي، ذو الشعر الأجعد، والأنف الأفطس، وملامحه الفاضحة التي تشي بجنوبيته، وترفع اللثام عن فقره وعوزه، وتكشف عن حاجته..
جنوبي ولد في قرية بعيدة من قرى الجنوب، وفي فمه ملعقة من المعاناة والأسى، ونشأ في مجتمع قروي من دون أب يسند إليه ظهره مع تكالب بنات الدهر حوله ، وبثروة زهيدة حدها الأقصى خنزيرين يفوحان بالنتانة والعفونة، وديك أسود منزوع الريش، متدلي الرأس، قد عفرته الحياة بالهزائم، واسقطت عنه الهيبة، وبات كهلًا مقطوع الصوت، ومهزوم الخاطر!
جنوبي وكاثوليكي يزور الكنيسة مرة واحدة في الاسبوع، يقضيها متضرعًا في جوار الصليب، ويقضي ليالي الأحد مع النبيذ منتشيًا، وبرفقة فتاة جنوبية مفطوسة الأنف، وذو شعير قصير مجعد، لا يتجاوز لحمة أذنيها، وحالكة السنحة، وذلك إن حالفه حظه السعيد، وقُبلت صلواته المتضرعة، وتلاواته المخلوطة بالطرب والغناء في كنيسة الرب، واعترافه لخيباته أمام القسيس..
يحزم أمتعته فجأة، ويبيع ثروته، ويودع أمه الكهل، ويترك قريته النائية في أحضان الجنوب البعيد خلف ظهره، ويجري خلف السراب، وأمام ناظريه حُلم مشوش، وأمل مجهول الهوية، وأضغاث مبعثرة، وطموحات تعانق السماء الممتدة أمامه نحو الأفق البعيد…
يركض صوب العاصمة”انجامينا” مدينة الأحلام، وغاية طموحه؛ ولكنها بداية المأساة، وأول الملحمة التي سيعيشها… عندما حاول توتولا شق طريقه بين مجتمع شمالي مسلم، يختلف عنه في طريقة حياته القروية… مجتمع شمالي مسلم عنده الجنوبي ليس إلا خادمًا مذلولًا، يخدم في بيوت الشماليين الأثرياء، أو ملمع للأحذية يملع أحذيتهم فوق الطرقات، يجوب شوارع المدينة بحوزة صندوق خشبي يحمل فيه عدته، ويتجول بين الأزقة المترامية بين الأحياء المختلفة، تلفحه حرارة شمس انجامينا الحارة في مواسم الصيف، ويطعنه البرد بطعناته القارصة في شتائه البارد… يجمع حفنات من المال البسيط، يعمل بكد ويرتقب قدوم أيام الأحد بلهفة، حيث الكنيسة والصلاة في بداية الصباح، وبعده يعقر كؤوس الخمر في حانات ديمبي المنتشرة في ناحية جنوب العاصمة، ويقضي لياليه في الرقص والطرب برفقة حسناوات الجنوب..
عند وصوله لأرض الأحلام،يحط من راحلته في جنوب العاصمة، ديمبي، في حارة سكانها من الجنوب المسيحي الذين يشبهونه في الشكل وطريقة المعيشة.. وتبدأ رحلته في بيت عثمان، سيده الطيب، ذو الملامح الدقيقة، وسحنته السمراء، وشمائله الحميدة، والذي يعكس جانب من جوانب الشمالي الطيب.. وزوجته البيضاء، فارعة الطول، وجميلة المحاسن، ذو الشخصية المستبدة والمسيطرة..
في “قارب يلاحق مرساه” يقبض على يديك جدي باحترافية الروائي المتمرس ويغوص بك في عالم العاصمة، انجامينا، الخليط من أطياف المجتمع المتباينة، ويعرج بك وقد ملأ صدرك بعليل هـواء الطبيعة الخلابة، ومعالم المدينة وحواريها التي قاربت بينها المسافة، وباعدتها الاعراق والعادات المختلفة، والشمال والجنوب، والقبيلة والعصبية، والتنوع الديني على حده الإسلامي والمسيحي.. وفي الطريق ينحي بك هنيهة، ويقف معك عند جزء من المجتمع حمله معه الفرنسي من بقاع الأرض البعيدة، ودسه في أرض تشاد، فنبتت فيها وترعرعت تلك البذور، وأمتدت جذورها إلى عمق الإنسان الخليط بالأرض والأصل والفصل..
ولكي لا أقطع حبل أفكار القارئ.. سأقف هنا فالكلام لا ينتهي، والعمق طويل، والرواية تستحق القراءة المتأنية والمتمحصة الدقيقة..
شكرًا جدي Mohammed Djiddi Hassan على هديتك التي قطعت المسافات البعيدة واستقرت هنا في القلب.
قارب يلاحق مرساه، حقيقة رواية جميلة جدا، هذه الرواية تأخذ إلى فيافي الدولة ووديانها.
هذا القارب يجعلك تعيش أجواء حياة العديد من الشعب التشادي بكل جهاتها المتفرعة.
شكرا لك يا العزيز جدي.
قارب يلاحق مرساه عجبني ، ولكن قسوته ظاهرة في وصف الجنوبي