هنادي أحمد نور- كاتبة
# الصومال
كيف للشوارع أن تضج بالموت هكذا، كيف للأزقة أن تزف الحياة بهذا السخاء، وكيف للتناقض أن يرقد بينهما بتحد مليء بالسخرية.
هل سبق لك وتمشيت في شوراع مقديشو، أنت لم تفعل هذا صحيح، لأنك تتقن التمشي في أزقة ذاكرتي فقط.
“حذار المشي في شوراع مقديشو، وحذار ركوب المواصلات العامة دون أن تنشر رادار حدسك وتسأل نفسك هل ستكون رحلتك هذه نهايتها وجهتك!”، هذه كانت نصيحة أمي التي لا أتذكرها سوى حين تتوقف عجلات التكتك(الركشة) أمام وجهتي، أقسم أنني أكون ضائعة في أفكاري ذاك الوقت فلا أنتبه حتى لو كان سائق التكتك يلعن فساد سياسة البلد أو يشتكي من حماته النكدية التي تقاسمه أوكسجين حياته.
المقاهي القديمة التي تطل على قارعة الطريق تغويني بمقاعدها المليئة ببقع المغادرين وبصمات نقر أصابعهم وهم يغرقون ببحر الانتظار، تستهويني فكرة أن أكون شاهدة على أطياف الزمن، أن أتلمس شفرات الكراسي وأستشعر وجود أشباح الانتظار، عامل النظافة أخبرني أنه نظف المكان جيدا هذا المرة بعدما رآني أتلمس أشياء المقهى كأنثى مهووسة بالنظافة تتبع عمله لتتأكد من جودة المكان، نظرت إليه بابتسامة مربكة وخرجت من المكان، كنت أبدو كمن قُبض عليها بالاختلاس.
هذا المساء ذهبت إلى رفوف الأماكن الغابرة، دخلت إلى مكان شعرتُ فيه كل إعصار يتنهده ساكنوه، إلى مكان سمعت فيه زقزقات تلك الطيور التي هاجرت منذ قرون، إلى مكان يشبه الانبعاث إلى الوجود.
ضحكات الأطفال وصدى سعادتهم وهم يسيطرون على الطريق، يركضون وراء الساحرة المستديرة بكل جرأة وبراءة، ضحكات الأطفال الآمنة، وصخب الأحاديث المتفرقة الآتية من الناس الجالسين بمحاذاة الطريق وكأنهم في مشهد فيلم الأحياء القديمة، هذا ما كنت أراه وأشعر به وانا أمشي في أزقة أحياء حمرويني هذا المساء.
رجل يجلس مع رفيقيه وينفث الدخان من رئته بعد أن استنشق سيجارته الرخصية، شابة تمسك طرف لبسها وتقف مستندة إلى باب بيتها تراقب المارين بعيون فضولية، فتيات صغيرات يلعبن الغميضة في زاوية، امرأة عجوز تضع قدميها المزينة بالحناء أمامها وتراقب أحفادها يمرحون بباحة المكان بأمان وأحيانا تغوص في ذكرياتها، والقطط التي تركض هنا وهناك تثبت انتمائها للمكان، والبحر، البحر هناك خلف هذه المشاهد يربط الأشياء ببعضها، يترك الروائح القديمة تجدد أثرها، ويصافح الهدوء يحوله إلى أمواج من الصخب الهادئ.
ذاك المكان بدى كوجهة آمنة يحتمي به أؤلئك الذين ضربتهم الحياة بسياط المخاوف، مكان ليتنفسوا وينسوا قليلا، مكان ليخففوا حمل التراكمات التي تنوء بها قلبوبهم.
إنه مكان ينفث فيهم الروح وينعشهم لنسج الواقع الهش والتوغل في الغربة من جديد.
#حي_حمرويني