حوار: ن. م. جبران
الكل يعرف الكاتب والصحفي محمد جدي حسن، أو الروائي روزي جدي من خلال الرسائل والمنشورات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، والمقالات التي يكتبها في الصحف، والنقاشات المحتدمة في المحافل الثقافية، سواء على الصعيد الواقعي أو الافتراضي.
وأخيرا من خلال رواياته التي صدرت في السنوات القليلة الماضية، والتي تعتبر حدثا أدبيا على صعيد الساحة الثقافية العربية في تشاد. وشهدت إقبالا جماهيريا قل نظيره، بسبب تفاصيل الحكايات البسيطة والمستلهمة من واقع العاصمة أنجامينا، وسكانها وأحلامهم المشتتة وشخصياته الخارجة عن السياق الواقعي، واللغة السردية المتشكلة من أحاديث الناس اليومية، بما تتضمنها من هموم وهواجس تتمثل في الحب والخوف من القادم المجهول، والحنين إلى ماض بعيد، ومحاولة البحث عن الذات في تلافيف الذاكرة المزدحمة بالأحداث والمآسي، وبما هو منسي ومجهول من الأشياء والأسماء كلها، وإعادة خلقها على شكل كلمات تأتي من أعماق العزلة، وعبر دروب الخيال التي تبدأ بالقراءة والكتابة.
في الوقت الراهن هل للكلمة أية قداسة؟
الكلمة ما زالت صامدة ومحافظة على قداستها رغم فقدان الكثير من الأمور والأشياء لهالتها، ذلك أن الكلمة هي أهم ما أبدعه البشر، لا يمكن بناء مجتمع دون كلمة، ولأن الإنسان يتكلم فقد تفوق على الحيوانات الأخرى، وأظن أن أول البشر الذين واجهوا الحيوانات انتصروا بفضل الكلمة، لأنه لا يمكن حدوث اتفاق أو اتحاد دون حوار.
قداسة الكلمة هي التي يجب أن تبقى إلى نهاية الحياة، لكن هذه القداسة في حالة تراجع في زمن مواقع التواصل الاجتماعي..
وهنا أود أن أذكر ببداية إنجيل يوحنا.
” في البدء كانت الكلمة…” كي أقول، العالم بدأ بكلمة وسوف ينتهي بمثلها.
هل الكتابة حقاً فعل وجودي؟
لا أعتقد أنه يمكن لي تحمل هذه الحياة دون كتابة، إنها طريقتي في الصمود والتحمل، كما أنها الطريقة المثلى للتعبير عما يختلج بداخلي، الكتابة ضرورة، أتذكر المرة الأولى التي احتجت فيها إلى كتابة قصة، لم تكن حاجة عادية كالجوع أو التبول بل كانت حاجة وجودية، شعرت بأنني لو لم أكتب هذه القصة لعجزت عن مواصلة حياتي، لذا أوقفت كل شيء وقررت أن لا آكل ولا أشرب ما لم أدون هذه القصة التي تشغل بالي أكثر من أي شي آخر في الوجود، الكتابة حقا فعل وجودي بالنسبة لي ولا معنى لوجودي دونها على الرغم من أنني كإنسان يمكنني العيش دون الكتابة، لأنني متأكد أنني سوف أواصل اختلاق القصص في دماغي والكتابة في مخيلتي حتى لو عجزت عن الكتابة.
هل للكتابة تأثير يفوق تأثير القراءة على الإنسان؟
نعم، الكتابة تعلم المرء الدقة والانضباط والتخلص من الزوائد سواء كلمات أو بشر أو قضايا.
ألا يجب أن تكون الكتابة تجربة بحد ذاتها؟
هي تجربة ذاتية قبل كل شيء، خاصة في مجال الأدب، نحن نكتب قصصنا قبل كل شيء ثم نكتب عن مشاكلنا ومشاغلنا وتجاربنا الذاتية قبل أن نكتب عن الواقع وعن حياة الآخرين، غالبا يكتب الروائي عن نفسه وعن أشياء يعرفها وعن قصص عاشها أو سمعها. الكتابة هي تجربة ذاتية حقا لكنها أكثر من هذا أيضا.
لكن ليست وحدها، هناك محطات أخرى يمر بها الكاتب بعد الكتابة وقبلها كالقراءة والنشر وردود الناس والنقد الذي يحظى به عمله، كل هذه تجارب أخرى إلى جانب الكتابة.
علما أن الحياة هي التجربة الأهم لدى كل الكتاب، الأدب الجيد يكتبه أشخاص مروا بتجارب ثرية وعيمقة، وأي شخص بلا تجارب مهما قرأ فإن أدبه لن يكون بقيمة الكاتب الذي امتهن الحياة وذاقها وخاض تجارب عديدة، ذلك أننا نستمتع بالقصص العميقة التي تجعلنا نشعر بتجربة إنسان آخر ونتعلم منه.
هناك تجارب أكثر أهمية، فالحب تجربة والحزن تجربة، السجن تجربة،كل الأشياء التي يمر بها الإنسان، خاصة تلك التي تدفعه إلى التغيير أو إلى التأمل في حياته هي تجارب عميقة تدفع المرء ليخرج أقصى ما لديه، والكتابة تحتاج إلى شخص مر بمثل هذه التجارب، لا تأتي القصص الجيدة من أشخاص لم يعيشوا حياة ثرية، والتجارب هي التي تثري الحياة.
كيف دخلت إلى عالم الكتابة؟
كانت عبر الرسائل، أعني كتابة رسائل الحب ليرسلها أصدقائي إلى الفتيات. كنت جيدا في اللغة، طبعا أقصد الأدب والنصوص، لا النحو؛ الجيدون في النحو لن يصبحوا كتابا.
بلغت الحُلُم بعد أغلب أقراني، هذا التأخير جعلني كاتب. كانوا على علاقات مع البنات، يتبادلون الرسائل والضحكات والهدايا، ولم يكن الأمر يعني لي شيئا لعدم ظهور تلك العلامات التي تدفع الشاب إلى الإهتمام بالجنس الآخر حتى كتابة الرسائل وتقاسم السندويتش! كنت آكل السندويتش وحدي واكتفي بكتابة الرسائل لا إرسالها، وكان ذلك سهلا وممتعا.
كانوا يحكون لي مشاعرهم بالدارجية التشادية ويصفون لي الفتاة فأحول تلك الكلمات إلى مشاعر وذلك الوصف إلى صورة، وهذا هو الأدب؛ أن تكذب بصدق، أن تخلق.
ما الذي ترغب بقوله للعالم من خلال الكلمة المكتوبة؟
أريد أن أقول للعالم أنني هنا، أنا موجود، لدي قصص رائعة أحكيها.. باختصار أود أن أقول أنا موجود وأن لدي ما أقوله وهي قصص تستحق القراءة، كما أريد أن أخلد اسمي ككاتب جيد، وهي مهمة ليست سهلة.
عن ماذا تكتب؟
أكتب عن الناس وعني وعن كل ما رأيته أو سمعته، أكتب عن أنجمينا وعن تشاد وعن القصص التي تجري هنا، عن واقعنا ومشاكلنا ومشاغلنا كأشخاص ينتمون إلى بلد خاص ولديهم قصصا خاصة.
ولمن تكتب؟
أكتب لنفسي ولأصدقائي ولكل القراء.
ولماذا الكتابة وليس الرسم مثلاً؟
لكي تكتب أنت بحاجة إلى قلم وورقة ومخيلة، لكن الرسم يحتاج إلى أكثر من هذه، ترعرعت في مجتمع لا يهتم بالرسم ولم أدرس الرسم في الابتدائية كما يفعل تلاميذ اليوم، لكن لو عاد بي الزمن، وحصلت على رفاهية الاختيار لاخترت الكتابة، برأيي أن الكتابة هي أرفع الفنون مكانة وأقدمها وأكثرها قدرة على الخلود.
هل تتعرف على ذاتك عبر الكتابة؟
نعم، أكتشف ذاتي وأستحضر ذكريات، بل هناك أشياء غابت عن الذاكرة، وحين أجلس للكتابة تأتي.
من يقرأ أعمال روزي جدي الروائية، يجد أن الزمن مفقود من البنية السردية، وأن الشخصيات غالبا ما تكون في صراع مع الزمن، للتحرر من قيود الماضي، وإعادة رسم خطوط الزمن، الذي لا يوجد له شكل واضح، فالزمن في سرد جدي عبارة عن ضباب يحيط بذاكرة المكان، الذي تتوه فيها الشخصيات، وتتكئ على الذكريات والأحداث المشتركة فيما بينهم، فالذاكرة هي التي تحدد شكل القصة من أول سطر حتى نقطة النهاية التي ينهار فيها كل شيء، ويبدأ بالضياع من جديد.
ما هو دور الذاكرة؟
الكتابة هي عملية استعادة لأحداث وقعت، أنت لا تكتب ما تراه الآن بل تستعيد ما رأيته بالأمس، لذا الذاكرة هي وقود الكتابة، أنا أكتب من الذاكرة مع استخدام الخيال كتوابل، الذاكرة هي معيني ومصدر الحكايات، نحن ككتاب حتى حين نكتب عن الواقع والحاضر نستحضره من الذاكرة، أي نتأمل شمس اليوم كي نكتبه غدا أو بعد شهر، وعندها تكون الكتابة من الذاكرة.
كيف تنظر لشخوصك السردية؟
أعتبرها أصدقاء عشت معهم سنوات ثم افترقنا.
ما هي ملامح الشخصية الأدبية المفضلة لديك؟
طوال سنوات القراءة في الروايات والقصص أحببت الشخصيات الإشكالية، وهنا أتذكر ثلاث شخصيات من أعمال مختلفة أحببتهم، لا يمكنني تفضيل أولهم على الثاني أو الثالث.
شخصية السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، أحببتها لأنها تعيش حياتين ولأنها متناقضة طبعا_ معظمنا متناقض _ وأنا متسامح مع التناقض، فالسيد عبد الجواد رجل تقي وصارم ومخيف داخل بيته ومع أسرته. لكنه شخص لطيف وساخر ومرح ويحب المجون خارج بيته، هذا التناقض حي جدا وواقعي، ويعبر عن الحياة الواقعية وعن الكثير من الآباء.
الشخصية الثانية هي السيد مرسو” في رواية الغريب ” لرؤيتها الخاصة والعبثية لمسألتي الحياة والموت.
أما الشخصية الأخيرة فهو الشيخ في رواية ” الشيخ والبحر ” دون أن أذكر
الأسباب.
هل أنت ياسين؟
لست ياسين، لكني موجود في قصة ياسين، أي روائي سوف يترك نفسه في بعض شخصياته.. هناك جزء مني في ياسين وجزء فيّ زكريا وهكذا.
يقال إنك دخلت السجن عمداً من أجل الكتابة عنه، هل هذا الكلام حقيقة أم مجرد شائعة؟
هذه ليست إشاعة، إنها حقيقة، قضيت ثلاث أيام داخل زنزانة ضيقة مع مجموعة من اللصوص، كنت قد عجزت عن مواصلة الكتابة في روايتي” قارب يلاحق مرساه ” لأن أحد الشخوص يقضي بضع أيام داخل سجن ولم يحدث أن دخلت السجن طوال حياتي، لذا بدأت أفكر في دخول السجن دون أن أرتكب جناية، كنت أبحث عن مخالفة وصادفني شرطي قليل الأدب، كنت في طريقي إلى زيارة صديق، أذكر أن الساعة قاربت العاشرة من يوم الجمعة، تشاتمنا تحت جسر دقيل، ثم قال لي ” ك***ي” تم الالتحام، تمكنت منه وتمكن مني. كانت معركة شرسة ومتعادلة، خسر سنا وأنا خسرت قميصي وانتهى بنا الزحف إلى داخل الترعة، وصل رفاقه فكبلوني بالأصفاد ولأن الرجل شعر بأنه خسر المعركة وسط الشارع وأمام عيون الجميع أرسلني إلى مخفر بعيد، أي مخفر شرطة خارج الدائرة التي وقعت فيها المخالفة، وهو أمر مخالف للقانون لكنه اعتقد أنه هناك يمكنه فعل شيء ضدي.
عموما بسبب الشكوى الطويلة التي كتبها أقسم رئيس القسم بأنني سوف أبقى هنا حتى أتأدب رغم أنه يتمنى أن يجلدني لولا أنني طالب حقوق ومدرس، وهاتان مهنتان شريفتان، وأظن أنه خاف من أن أرفع دعوى في حال ارتكب شيئا مخالفا للقانون.
بعد 24 ساعة طلب مني مدير المخفر أن أدفع عشرة آلاف غرامة وأكتب رسالة اعتذار وأعود إلى تلاميذي، رفضت كتابة الرسالة ورفضت الاتصال بأحد من أسرتي، بعد ثمان وأربعون ساعة تعرف عليّ أحد رجال الشرطة، هو أيضا من حارة دقيل، اتصل بأخي ودفع لهم الغرامة، حاول أخي اقناعي بكتابة الاعتذار والعودة معه لكني رفضت، في تلك الليلة أخرجوني من الزنزانة ونمت في ناموسية إلى جانب الشرطي الدقيلي ومع حلاوة الحديث أخبرته أنني هنا من أجل الكتابة عن أحوال السجون في البلاد وأن الشرطي الذي ضربته لم يكن سوى بطاقة عبور إلى زنزانة ولا أحمل تجاهه أي صغينة، صباحا أخبر الشرطي مديره فسارعوا لإبعادي من هناك، طمأنتهم بأنني لست صحفي، بل روائي وما أكتبه لا يدين أحد، في نهاية الأمر أوصلني مدير المخفر إلى البيت.
وبجانب الصراع في سبيل البحث عما هو مفقود من ذاكرة الزمن. تعيش الشخصيات حالة من العزلة النفسية والثقافية والاجتماعية. وأحيانا عزلة وجودية تفصل الشخصيات عن الواقع، وعن ماضيها الذي دائما ما يكون حكاية ذات أوجه متعددة، يقوم الآخر بتشكيل مجريات أحداثها، وفرض روح الهزيمة، وهوية الضياع، وفي نفس الوقت تكون العزلة هي الطريق من أجل الخلاص، وإعادة بناء الذات.
ماذا يوجد في العزلة؟
هناك الكثير في العزلة، هناك القراءة والتأمل والتفكير والتذكر ومراجعة الذات والتخيل؛ وهي الأمور التي يحتاجها الكاتب ليكتب ويكتب ويجود كتاباته.. لذا هي ضرورة وأمر لا بد منه بين الفينة والأخرى.
تحدث عن زمن العزلة؟
قرأت لنحيب محفوظ ويوسا قبل أشهر من امتحانات البكالوريا، كانت لديّ رغبة في الاقتداء بنجيب، ما يعني أنني أردت الالتحاق بكلية الفلسفة، لم تكن هناك كلية للفلسفة في جامعة الملك فيصل ولم تعجبني جامعة سبها، وبما أن لدي طموحات الروائي ماريوس فارغاس يوسا؛ أي أن أكون روائيا ثم رئيسا للجمهورية قررت الالتحاق بكلية القانون التي اعتبرت أنها تقودني إلى السلطة!
عادة ما يقضي الشاب سنوات الجامعة كفترة تعارف واكتشاف، لكني كنت شخصا خجولا غير مرح – أعتقد أنني ما زلت كذلك – وهو ما جعلني قليل الأصدقاء.
في الجامعة قرأت الأدب والتاريخ، أحببت الأمويين وطه حسين وكتبت القصة القصيرة.
عشت عزلة الأدباء، أعني أنني أقضي معظم الوقت وحدي، لكن ذلك لا يعني أنني لست اجتماعيا، أختلط بالناس وأحكي لكني أخبئ الحكايات الجيدة لأحكيها لروزّي جدّي الكاتب أملا في أن يقتنع ويكتبها، لم أكن نشطا في سنوات الجامعة، كنت أقرأ الأدب وأنزوي في مكتبة المنى وأتخلف عن بعض المحاضرات.
كيف كنت وماذا صرت بعد تلك السنوات؟
قبل العزلة كنت أطلق أحكام.. وبعدها لا، الكتابة الروائية إذا كانت تعلم شيئا واحدا بشكل جيد فهي تعلمك ألا تطلق
الأحكام، ألا تُنظّر، فالرواية قائمة على وجهات نظر عديدة، والروائي لا يقدم الوعظ.
أما على المستوى النفسي فالعزلة جعلتني أتعرف على الناس، لأني كنت أقرأ الأدب في عزلتي، والأدب وخاصة الرواية هي تتحدث عن الناس بشكل عام، تتعرف على كيفية تفكير مجموعة من الناس، دوافعهم، وأشياء أخرى عن هذا الكائن الغريب.
هناك نض يحصل عليه قارئ الأدب، لأن الأدب يتحدث عن القضايا التي تهم الإنسان وعلى رأسها الحياة والموت، قراءة الأدب يجعلك تفهم هذه الأمور الغامضة وتتسامح معها أو تستعد لها بشكل جيد.
كيف تصف علاقة الكاتب/ الفنان بالمجتمع؟
هي علاقة معقدة في مجتمعاتنا الجنوبية هنا، مثل صراع الشاب الذي يريد الاستقلال عن أسرته التي تريد أن يبقى كما هو، لكن مثل أي علاقة أسرية تواجهها الكثير من الصعوبات، وحده النجاح يصلح ما أفسدته الظنون، ثمة سوء فهم يعانيه الكاتب في المجتمع التشادي؛ هو يكتب قصص وحكايات من أجل رسم عالمه وعوالم بلاده وكتابة التاريخ الآني لحاضره، لكنه يتهم ويساء فهمه ويحاكم في أي مفردة لم تعجب المجتمع، شخصيا أتفهم هذه المعضلة؛ لأنها عالمية ولم تقتصر على كتاب دولة ما أو قارة.
كيف ترى الجدل حول ما تطرحه من أفكار وأراء؟
كانوا يقولون ” أنت جريء؛ حين كنت طالبا في الثانوية، أعتقد أنه من الجيد أن يكون المرء شجاعا ويقول كلمته دون خوف من الناس. لا أرى الكثير من الجدل حول ما أطرحه من أفكار، ربما كان هناك الكثير من الجدل حول آرائي لمّا كنت طالباً جامعيا وكاتبا أسبوعيا في الجرائد؛ لقد مضى ذلك الزمن، والجيل تغير.
هل ترى نفسك شخصية مثيرة للجدل؟
شخصية مثيرة للجدل! لا. لا أرى نفسي كذلك، أو لم أعد كذلك. أنا شخص حاد، حاد كالسكين. أنا لست لطيفا، وهو أعني أنني حاد وغير متسامح وأجرح من يجرحني وأشتم من يشتمني ولا أدعها تمر، ربما يعود هذا لكوني ترعرعت وحدي أيام المشاكسة وكنت أتعرض للضرب وأتعارك وحدي دون دعم من إخوة أو أخ كبير؛ وربما لشيء في نفسي، وعلى العموم لست شخصاً سهلا ولا لطيفا، وأظن أن اللطفاء لن يصبحوا كتابا، وعندما أنوي قول رأيي فإنني أقوله ولا أهتم كثيرا بالناس.
لماذا تغيب جرأتك المعتادة في سردك الروائي؟
في الرواية الأشخاص والقصة هي التي تقرر ماذا تكتب، أي أنني لم أعد أنا، بل متقمص شخصيات، لذا حين أتقمص شخصيات ليست جريئة تغيب جرأتي.
نجد في أعمال زوي جدي. توظيفا واقعيا للأساطير والحكايات، من الموروث الشعبي. وقصص تؤرخ لمدينة تكتظ أناس أتوا من مختلف الخلفيات الثقافية. كل جاء يحمل معه حكايته مع الزمن، والتي يمتزج فيها الواقعي بالخيالي، ويحكيها بلغته الخاصة.
إلى أين يأخذنا الخيال؟
الخيال هو جبريلنا الذي يأخذنا إلى السماوات، أعتقد أن أي شخص لا يملك خيالا واسعا يجب ألا يمتهن الكتابة، لأنه عنصر جوهري وبدونه لن تذهب بعيدا.
ما هو تأثير الأدب على اللغة؟
أعلى مراتب اللغة هي لغة الأدب التي يكتب بها الشعر والنثر، أعني أنه من خلال اللغة الأدبية يمكننا استخدام أقصى طاقتنا اللغوية لنعبر عن المشاعر، والأدب مع الأيام خلق لغة خاصة به لوصف حياة البشر، أقصد أن الأدب ساهم في تطوير اللغة وجعلها واسعة وفصيحة ومفهومة ودقيقة، اللغات التي لا أدب لها هي لغات فقيرة، وأي لغة رائعة هي كذلك لأن أهلها أنتجوا أدبا رائعا، الأدب هو العمود الفقري للغة.
كيف هي علاقة الصحافة بالأدب؟
الآن أقول إن الصحافة تضر بالأدب، لأنها تستنزف الكثير من الوقت؛ وهو ما يحتاج إليه الأديب ليخلق عوالمه ويكتب الأدب،هناك علاقة وثيقة بين الأدب والصحافة، وهي تكمن في حاجة الصحافة إلى الأديب الذي على الأغلب شخص دقيق يقرأ الكثير ويكتب بطريقة جذابة وهي أمور تنقص الصحفيين.
الأدباء لا يحبون الصحافة كمهنة وليسوا مولعين بها، أي شخص يكتب الأدب يرى الكتابة الصحفية سهلة، وهي كذلك حين تضعها أمام شخص يخلق عالم كامل ويكتب أكثر من مئتين صفحة من العدم، الأدباء يلجئون إلى الصحافة ويمارسونها من أجل لقمة العيش؛ الأدب لا يقتل جوعا ولا يروي عطشا.
قلت قبل أيام أن الصحافة مهمة للأديب، ووقتها كنت أعني الأدباء المبتدئين، لأن مهنة الصحافة تجعلهم يبحثون ويكتبون الكثير من التقارير، ما يجعلهم يستخدمون اللغة.
منذ سنوات وأنا أعمل في الصحافة ككاتب حر، لكني حين عملت كمحرر وكاتب تحقيقات أدركت أنها تستنزف الكاتب وتبعده عن الإبداع، عام ٢٠٢٢ كانت سنة سيئة لي على صعيد القراءة والكتابة معا، لأن الصحافة أخذت مني معظم الأشهر لأني كنت بحاجة إلى الفرنكات التي أكسبها من خلال العمل في الصحافة.
لا أريد الإتيان بالمقولات ولا أن أرمي بعبارات يقينية، فأنا لا أعرف شيئاً، كما أنني ما زلت على أبواب الثلاثين وفي بداية حياتي، سواء في الصحافة أو الأدب لكني أظن أن – الكاتب الذي يمتهن الصحافة لفترة طويلة سوف يفسد أعماله الأدبية بلغة الصحافة التي هي دون مستوى لغة الأدب.
هل ستكتب نفس الحكايات لو كنت تعيش في مدينة أخرى؟
أنا ترعرعت في أنجمينا، الأفضل للروائي أن يكتب عن الأشياء والأماكن والقصص التي يعرفها، أعرف أنجمينا مثل راحة يدي، لذا كتبت عنها وعن سكانها والأحداث التي جرت وتجري في محيطها، لذا تبدو هي البطلة أو شخصية مهمة في ” زمن الملل” وقارب يلاحق مرساه ” ولو عشت في مدينة أخرى لكتبت عنها كما فعلت مع أنجمينا لأن الكاتب ابن بيئته.
هذا لا يعني أنني كاتب مدن، أو عليّ حصر نفسي في هذه القوقعة. عملي الثالث والذي هو قيد النشر لا يتحدث عن أنجمينا بل عن حقبة تاريخية مهمة من تاريخ تشاد.
صحيح أن هذه المدينة ألهمتني الكثير، بل قدمت لي العديد من القصص، وأنا كاتب واقعي جدا رغم أن كل ما أقوله قائم على الخيال، ربما يجد القارئ تأريخا لحالة العاصمة من الناحية الاقتصادية والسياسية في رواياتي لأن هذا هو دور من أدوار الأدب؛ أي يسجل التاريخ بطريقة أدبية، ولو عشت في مدينة أخرى لكتبت حكايات أخرى، عن صيف آخر أقل حرارة، عن شتاء غير مستعجل كالذي يمر بنا، عن قصص أخرى لأناس لا يعيشون في بيوت الصفيح ولا يدخلون حربا جديدة بعد كل بضع سنين.