علي محمد الطالب- طبيب وكاتب
تشاد
يصيح سعد: اِجْرِ يا حسن، اِجْرِ لا تتوقف، لا تنظر إلى الوراء أبداً، على أحدنا أن يعيش ( اِجْرِ عليك الله يا حسن)، أواصل الجريّ هذه المرة، ولكن لوحدي؛ ها أنا ذا أسابق الموت، أسابق الرصاص الأحمر؛ كأنه يخرج من الجحيم، لا من فُوه السلاح، أتعثر فلا أسقط، ألهث من طول المسافة التي قطعتها، تخطتني رصاصة ساخنة؛ لكنها خدشت فخذي، أتحامل على نفسى، أقفز في جوف الوادي، شعرت بأن أصوات سيارات لصوص الصحراء بدأت تبتعد عني، لكني واصلت الجَريّ حتى ملّ مني الرصاص، أحجمت عني البنادق، بعد ركضٍ وفير على مَرْأى نقطة اللقاء؛ وقبل أنْ أصلها، وقعتُ على (خشمي) فَمِ مغشياً عليّ.
أفقت في اليوم التالي وأنا في ظهر التويوتا، نتجه نحو (كلاعيد)، وجدت أن عددنا تقلص إلى ثلاثة أشخاص، سألتُ خالد: أين أخوك علي؟ أجهش في بكاءٍ مكتومٍ وقال:
- سقطتْ عليه البئر، كان دوره في الحفر كما جرت العادة، وكنا في الخارج ننفخ له الهواء، وفجأة بدون أي إشاراتٍ تهاوت؛ وسقطتْ عليه. لم أستطيع أن أودعه، أو أراه لأخر مرة؛ تخيل أنني لم أستطع حتى أن أفعل شيئاً لأخي، وقفت مكتوف اليدين، كباقي الناس فقط، كأنه ليس أخي، غلب عليه حزنه فصمد، ليردف موسى:
هل تعلم ياحسن؟: المنجم الذي تهدم عليه عمقه؛296 مترا! تبقى لنا 4 أمتار فقط؛ لنرِد القاع الوفير، وإذا بكل شي ينهار، ولكن من السعادة أن يجد قبراً بهذا الطول، أراد أن يضيفَ شياً، ولكن قاطعه المهرب سائق السيارة وقال:
هل ركضت كل تلك المسافة؟! يسأله موسى كم المسافة التي قطعها؟. - ستون 60 كيلو مترا، بدت الدهشة على وجه موسى؛ وأخذ ينظر إلى قدمايّ المتورمتان، وقد لاحظَ أن إحدى أصابعي اختفت!.
نعم إنه هروب، هروب من الموت إلى كنف الحياة.
علمت فيما بعد أنهم تتبعوا دربي، و وجدوا جثته الباردة مغطاة بالدماء، وفي بطنه ثقوب لا حصر لها، ودفنوا سعد حيث وجدوه، بالقرب من الوادي؛ عند الصخرة.
ظلت سيارتنا تقطع الصحراء حتى اجتزنا ( فَيا، وعراضة ، والفقيرة )، ومن بعيد لاحت لنا الهضاب التي تحيط ب(بلتن)؛ عندها أوقف المهرب سيارته وقال:
الآن دعونا نتقاسم الذهب، ويحصل كل منا على حصته، وبعدها لا أعرفكم ولا تعرفوني.
وصلنا محملين بالفجائع، موسومون بالفقد، ماتت أم خالد آيا كلتومة؛ من صدمة الخبر، وخيم الحزن العظيم على قلب خالد، متقبلاً قضاء الله وإنْ أنْ أوجعه.
وبدوري سلمتُ حصت سعد لأمه، تركتها تولول وتقول: (مثل ما شلتو روحا؛ دهبكم كولا شولو ).
ذهبت بالمال القليل الذي جئت به؛ مسدداً به بعض ديون أهلي، واشتريت قطعت أرض زراعية بمقدار 5 هكتار، وزوجت أخواتي حليمة، والصغرى حاجي، وأهم من ذلك كله؛ اشتريت إطاراً كبيراً، أدخلت فيه شهادتي الجامعية؛ بتقديرها الممتاز، وعلقتها على الجدار.
أما موسى؛ فتزوج من غالية بنت عمه، بعد انتظار دام عدة سنوات، وأنجب منها بنت أسماها (دهباي)؛ في جدتها، ضحكنا لهذا الاسم كثيرا، وشعرنا بأنها بنتنا جميعاً، ليس لأنها بنت موسى الصديق، بل لأنها نتاج المغامرة التي اخذت منا الرجال، وهدتنا فتاة كفلقة قمر .
بعد مرور سنتين تحديداً، وفي فصل الخريف، وقعت غرفة الطين على رأس أختي فطومة، بسبب عدم ترميمها، فَخَلاءُ جيبُ والدي، واهتراء محفظته؛ ليس السبب، أنا أيضا رجل؛ وعليّ أن أتحمل بعض المسؤليات، جاء خالد يعزيني فَقْدَ أختي، فسألته ما رأيكَ أن نعيد الكرة مرة أخرى؟
خالد: كنت أنتظر منك هذا فقط والله.
عرجنا على بيت موسى؛ فقال لنا: إنتظرا حتى أودع زوجتي و دهباي، صاح له خالد قائلاً: ما تنسى جيب معاك رقم سيد (الوتير) السيارة.
تمت