شعيب الأحمدي- ناشط صحفي
اليمن
حينما دخلت إلى المدينة مقاومًا في الإعدادية، كانت المسافة بمقدار الدقيقة 59 في الساعة الأولى، والصِفرَ في الساعة الثانية، نصل في لمح البصر!. آنذاك كانت الذكرى الرابعة لثورة الشباب السلمية، التي أصيب بها الكثير من الرفاق بمسيلات الدموع، وأنا منهم في حي القرية.
في ليلة ماطرة، كنا نطالب بإسقاط النظام اللاّ موجود في الدولة، وعرفت تعز دولةٍ مدنيّةٍ ملطخة بالدماء.
عندما كبرت الآن أصبحت المسافة كبيرة أيضًا، أصبح السفر عناء بين مسافات ساعات الشروق وساعات الغروب، والموت بينهما منتظر اللحظة، لماذا كبرت المسافة قبلنا؟!.
غادرت القرية في الخامس عشر خريفًا، فردًا يلبي دعوة النداء: “حي على الجهاد” مقاومًا للماسي التي تجول مطاردة عساكر الإمام من مكان إلى آخر، في الأزقة،ألا أستحق التقدير؟
قبل ذلك وضعت في الحقيبة كل ملامح القرية، حملتُ في الحقيبة السوداء مثل الليل، صورة أمي المتوفية، ووجه أبي الكاهل من الهم، ضحكات النساء الخافتة باستحياء، وكيدهن الفطري العظيم، ووجه الفتيات السمراوات مثل قهوة الصباح، أناقة الزرع، براءة الأطفال، بداوة الرجال، وأحلام الشباب، يقظة العصافير التي تتجول في السماء الزرقاء بلا هوية، ولا حدود ومعابر مغلقة بالموت مثل المدينة!. خرجت كمنَ يريد أن يحمل كل شيء جميل في قلبه ويغادر إلى مكان يحبه، دون أن يعود بعد ذلك أبدا.
هرعتُ كثيرًا في الأزقة، أحمل أشواق اللهفة لمعرفة كل شيء في المدينة يعرف عنكِ شيئًا، ظللتُ أطارد نفسي من مكان إلى آخر لعلِي أجد ما أسعى إليه، لم أتوقع أنَّ أصل إلى هذا المنعطف الخطير، في مدينة لطالما أحببتها كثيرًا، حلمتُ أنَّ أسكنها مثل ما تسكنني.
تعلقت بهذه المدينة وبحبها المتين قبل أن أعرفكِ، أحبكِ أيضًا مثل حبها، أو أشدّ حبًا منها!.
لماذا الهجران؟
أم أن جزاء هجران القرية يعود منكِ؟
بعد هذه السنوات أطوف في تعز جريحًا، مبتور الحلم، بلا حب، أتعلمين!؟ بلا أملّ العيش معكِ فاتنة -ذات عينين عسليتين- اتسكع من شارع إلى آخر تحت النجوم، بلا قدم وقلب من باب المدينة القديم إلى متحفها المهجور مثلي بلا هدف!.