يبدو غريبًا فلا تعرف نواياه، تتوه في دروب الحياة ثم تعود فلا تلقاه نفس الغريب الذي كان في زمانٍ غابر، يخطفه الملك فيصبح غريبًا في ذكرياتك، كما لو أنك لم تحيا معه سنين.
«كان رجلاً جاهلاً ولم يتعلم أيّ شيء»
تخيل نفسك أمام طفلك، اسأل نفسك من الآن ما الذي ستقدمه له؟
لا أتحدث عن الملبس والمشرب!
بل أتحدث عن دراسته وما سيتعلمه منك.
هل سيتربى على الجهل والخضوع؟
أم تمنحه علمًا ينتفع به؟
والدي درس سبع سنواتٍ في المدرسة، في التسعينات، أيامًا كانت فيها المدارس للعلم وليس للتظاهر بالجمال والغياب!
وصل للسنة الأخيرة لكنه لم ينجح، رغم ذلك كان يتحدث الانجليزيه والفرنسية أفضل مني! ويستطيع الحساب أحسن مني! والغريب أنه يتذكر أقوالاً وحوادث وقعت قبل أزيد من عشرين سنة!
ما بالنا نحن اللذين ننسى عشاء الأمس، وفي صلواتنا في بعض الأحيان أسجد طويلاً لأتذكر كم ركعة صليت!
ذلك لأن طعامهم لم يكن متكونًا من المعلبات وغيرها، كانت قطعة الخبز مليئة بما يقوي البدن.
أكثرنا المعلبات وأصبحنا نزور كل يومٍ المستشفيات!
على كل حال، ما الذي ستقوله لولدك أو ابنتك؟ هل ستتحجج بأنه لم تكن تملك وقتًا؟ لكنك تملك منه ما يكفي لتدرس على الأقل، والمدارس أقرب إليك، لديك مالٌ وفير وإن كان قليل فهذا سبب آخر لتضغط على نفسك لتصبح متعلمًا يستطيع إنقاذ نفسه من هذا الجهل المنتشر.
أبي كان يلبس بنطال جدي -والده- وجدي كان غليظ البنية وعريض الأكتاف وممتلئ القدمين، لا أقصد سمينًا بل عظمه كان غليظاً وممتلئاً. قال لي أبي أنه كان عريضًا، فكان قريبًا من عُرض الأبواب القديمة.
كان يلبسه ويحزمه بحبلٍ ويطويه حتى ركبتيه، البنطال أثقل من وزن أبي. يقطع الوادي بمشقةٍ كبيرة.
حدث معي نفس الأمر لكنني كنت أملك ملابسًا على الأقل تسترني، كنت أمشي للإعدادية تحت المطر الشديد، فأصل مبللاً مثل كتكوتٍ لم يختبئ.
لكنني على عكس أبي لم أكن أستفيد أيّ شيء، فهو كان يتعلم التاريخ من جدي وأساتذته وحتى اللغة، كان التعليم حقيقيًا.
أما أنا فقد كنت أجلس أشاهد كلمات الكتب دون أن أفقه الشرح أو أستفيد شيئًا، كنت الخاسر الوحيد.
لكنني لم أستسلم بل فعلت ما بوسعي، استطعت النجاح في كل السنوات، كافحت كي لا يقول لي أحد أنت “رسبت”، في النهاية أخذت شهادة الباكلوريا وظننت أنني قد فتحت أبوابًا كثيرة، لكنني كنت قد أغلقتهم جميعًا.
لم أجد شيئًا تابعًا لتخصص الطب، يمكنني فيه أن أنال وظيفةً أو شيئًا من هذا القبيل.
وجدت جداراً يُقال له “جراحة القلب” حينها ولأول مرةٍ منذ بدأت الدراسة، شعرت بالهزيمة… شعرت بأنني راسبٌ قبل وصول النهاية، استسلمت وها أنا بعد ثلاث سنوات وبعد أشهرٍ قليلة ستصبح أربع سنوات… لم أفعل أي شيء غير الضياع.
لكنني لا أملك أي عذرٍ أقدمه لولدي، لن أقول له أنني كنت جاهلاً أو أنني لم أنل حقي من الدراسة، ربما أرغمتنا الظروف لكن لا مستحيل لمن توكل وعمل بجد.
ماذا عنك ما الذي ستقوله لولدك؟ هل تعتقد أنك حقًا تستطيع الاعتناء به؟ أم أنك ترغب بالبقاء وحيدًا للأبد؟
حتى كذبة أبريل لن تجدي نفعًا معك.
كمال عبده