عيش لا يعاش وموت وشيك وحياة بين البقاء والفناء فمن أين يأتي الخلاص، أم حُمّ القضاء؟
مغمور تحت حاجات الحياة، مطمور في طين المطالب والضرورات، الأمل في واد واليأس في واد، هل حقا بقي الرجاء؟
إن الحياة مغامرة نخوضها كل يوم، الغني الموفور حظه والمتين باعه يغتنم الحياة و يستمتع لذاته و يسبر غور نعمها وشهواتها.
وهو السعيد كتبت له السعادة في اللوح المحفوظ بيد الله الذي خلقني.
وهنا أنا، الرجل الشقي الكفيف لا أرى من المتعة إلا ظلها، الرجل الأصم لا أسمع للنعيم إلّا حثيثه.
كتب ربي علي الشقاء في اللوح المحفوظ بخط يده.
جاءه صوت النادل وهو ضائع في أفكاره حتى كاد يضل عن شخصه و مقره، فاقد الوعي تماما منخرط في أحلامه الضائعة و أمنياته المستحيلة.
ـ أهلا دكتور، كما العادة؟
سمع هذا الاسم الملعون مرة أخرى، كاد يتميز من الغيظ، ما زال الناس يلقبونه بهذه الرتبة اللعينة لكن ما ذنب النادل ( براما) أليست درجته العلمية أليس خاصيته ، أليس دبلومه الفاخر الذي اقتنى به هذه التسمية؟ فقد ظن ورجا – و كان ظنه سرابا و رجاءه هباء- إنه بمجرد حصوله على هذه الدرجة المرموقة، و هذه الرتبة العلمية الفاخرة، تنقاد له أعناق الإبل،و يحوز بإثرها الثراء والنساء و يقبل عليه الناس و يشتهر بها في البلاد.
فقد أنفق في سبيل نيلها عشرين من عمره منقطعا فيها إلى الدروس والمحاضرات والندوات العلمية، و أنفق فيها ثقته بالله ثم رجاءه في الحياة و آخر خلواته بربه، لكن ماذا جنى من كدّه إلا الخيبة والفقر ثم عداوة مجتمع لا يفهمون مواقفه ولا يستوعبون أفكاره فقد خسر مرتين، فهو الآن ينيف على الأربعين من عمره ولم يحز غنى أو ثراء ولم يفز بشهرة أو شعبية.
ـ نعم يا صديقي
قالها بشيء من الفتور واللامبالاة والخيبة والمأساة، و هو يردد في ضميره ( دكتور لا يملك في جيبه فرنكات الفطور !).
قبل نفاد القطرات الأخيرة من قهوته، التي انعكست على محياها سيمات البؤس والشقاء الذي يعيشه في خلده و جنانه، تطرق إلى سمعه وقع أقدام قادمة من الباب الأيسر للمقهى حتى وصل إلى جانبه وهو يتشبث بمقعده يتأمّل فنجانه الخالي، و يتمنى أن يكون في مكان غير هذا المكان، يتمنى أن يكون إنسانا غير هذا الإنسان يعيش في عالم غير موجود لكنه لات حين مناص!
فبادره القادم الذي عكّر صفوه و كدّر قهوته الصباحية قائلا:
ـ كيفك سيدو؟
ـ بخير كما العادة، و أنت سيكو؟
ـ الحمد لله
ـ ما الجديد؟
ـ لن أخطو بقدمي عتبات مسجدكم أيضا!
كوقع الصاعقة استقبل سيكو صديقه الحميم هذا الكلام الأخير، صديق المسرة والضراء، والضراء كثيرا، صديق الطفولة الذي درس معه من الابتدائية إلى النهاية، الصديق الذي هو أكثر من صديق صار كأخيه من الأب والأم، الصديق الآمر والناهي، الناهي في أكثر الأحيان، فهو ( سيدو ) متهور، يحب المجون، والسهرات الغنائية و ملاحقة الحِسان و البغايا أحيانا، وذلك عندما يصاب إيمانه ببعض الخفت والانحطاط طبعا، والإيمان يزيد وينقص.
هو عكس صديقه سيكو تماما، الذي لا يفوته الفرض في الجامع.
حتى الفجر الذي يظلمه الكثير من الشباب المسلمين لحب المنام.
لا يتحدث مع الفتيات، ولا حتى ينظر إليهن حين المرور في الشوارع عكس صديقه الذي يردد آناء الليل و أطراف النهار ( أحب النساء ذوات المؤخرات الكبيرة) العبارة التي كانت تزعجه دائما عند سماعها لما فيها من استهجان وبشاعة.
والأمر ليس أنه لا يحب النساء والأمتع ذوات الأدبار الفارهة لكنه كان يخفي شهوته الكامنة و لذته الممقوتة بشيء من الخجل والحياء فيتاظهر البغض والغضب كلما أبدى صديقه برغبته و ميوله.
فلما سمع منه هذا الكلام أو بالأدقّ هذه اللعنة النووية، لم يتذكر كل آيات الترغيب والترهيب و أحاديث الأمر والنهي التي حفظها بمرور السنوات – بلا وعي منه – لأجل صديقه، فلم يكن له منبر يخطب عليه كل جمعة أو مسجد يصلي فيه بالناس إماما و قائدا دينياً لكنه امتلك هذا السلوك لكثرة إرشاده لصديقه الذي كان يتعاطى بعض المحظورات الدينية والذي ما كان يلفت نظرا في الحقيقة إلى نصائحه، فكان ينصت له بشيئ من الازدراء حتى إذا انتهى منها قال ( الدِّينُ يُسْرٌ وإن الله يحكم على ما في الصدور).
تمتم فقط بنبرة هادئة عادية جدا، خلاف عادته مع صديقه كأن ضميره لا يتهيب يأسا و ينفجر غيظا:
– الآن صرت ملحدا؟
أجاب صديقه بنفس الأمن والاستقرار:
ـ لا أرى لربك علي واجبا أيضا
ـ وصل بك حبك للشهوات إلى التخلي عن ربك؟
ـ ما ذا منح لي ربك؟
ـ قدّم لك الحياة و خلقك ولم تكن شيئا مذكورا.
ـ أنشأني أبي بمعونة من أمي .
ـ هذا ما انتهت بك دراساتك في الفلسفة، أن تكفر بخالقك؟
ـ لم أكفر يا سيكو، بل رأيت اليقين الذي أخفاه مني ربك، الآن حصلت على الحقيقة الغائبة.
ـ الآن صرت فيلسوفا، من المعروف أن خاتمة المتفلسف هو الإلحاد، كقدوتك ( سارتر)، لذلك منع تعلم الفلسفة شيوخ الإسلام رحمهم الله.
ـ سارتر كان ثريّا جدا هذا ما دعاه إلى الإلحاد، أنا فقير جدا هذا ما منعني أن أكون ملحدا.
ـ إن لم تكن ملحدا فلماذا ترفض إيتاء فرائض الله؟
ـ أنا أومن بالله لكني إنسان مبدئي لن أتعرّق لشخص لا يعبأ بمحهوداتي، لماذا أقوم بفرائض شاقة، و أستفيق من سكر متعتي الدنيوية – وهي كثيرة- لشخص لا يقدر أن يقضي أدنى حاجاتي أو يحلّ أبسط ضروراتي.
ولتعلم أنا أشكّ في كفاءة شخص فشل أن يحسّن وضعي في الدنيا أن يعدّ لي راحة و رفاهية في دار أخرى لم أرها ولم أسمع عنها إلا في مذكراته .وهذا منطقي جدا!
ـ من الفلسفة إلى السخافة؟
ـ قل لي يا صديقي ماذا جنيت من دراساتك الشرعية؟ هل أسدت جدوى بعدما قلبت كتب التفاسير و فتاوى العلماء رأسا على عقب هل جنيت من ثمر غير الفقر والتعاسة والإيمان الكاذب برب لا يراك ولا يهمه أمرك، بعد حصولك على الدكتوراه في تلك الدراسات الشرعية هل لك مدخل مالي سوى تدريس الأطفال في الثانوية؟
أنا لست منافقا، لا يهمني أمر من لا يهتم بأمري، وربك قد اختار موقفه من نفسي و أبدى لي رأيه من أمري فلن أنتظره بعد اليوم لإصلاح أموري و إيتاء واجباتي، لدي واجبات قبل أن أتفانى لإيتاء واجباته هو، الحياة سهلة جدا و أنا اخترت موقفي أيضا، وهو نفسي.
سمعه سيكو وهو يذكر هذه العبارات الخطيرة، هذه العبارات الجهنمية التي يسردها بكل ثقة و رحابة صدر كأنه لم يكن في الأمس القريب من مأمومي الإمام ( أبكر) إمام المسجد الكبير في صلاة الجمعة.
ذكر سيدو هذه الإفصاحات الكمينة، الساكنة في أعماق ضميره المتقلبة في نواحي لا شعوره، التي كانت تبدو كوصايا راحل، أو مسافر إلى جزيرة فقعاء شاسعة بعيدة لا خريطة لها ولا بوصلة، لا شريعة لها ولا قوانين.
و أمسك بنسخته القديمة من الرواية (الغريب) التي بدأ غلافها يصاب بشيئ من التلف من كثرة المطالعة والاستعادة.
فقد قرأها عدة قراءات و تأملها سنوات حتى صلى بها بعض فرائضه اليومية في ماضيه القريب حين كان يصلي.
ـ ما سبب هذا التغير المباغت، وهذه الآراء الفظيعة من أي كتاب؟
بادره سيكو بالسؤال وهو يستعد للقيام، و بابتسامة ساخرة باشره سيدو:
ـ من ربك، أتاني من السماء!
نظر سيكو إلى صديقه وهو يخطو خطوات تبعده من المقهى، و كل خطوة يخطوها، تبعده من مقرّه، تبعده أكثر من قلبه و ذاكرته، شخّص فيه يتأمل شخوصه و ملامحه عن دبر يتمنى أن يكون هذا اليوم لم يكن قط أو حتى يعثر على تاريخه في تقويم الأيام.
ما زال صديقه يختطي خطواته الشُجاعة مبتعدا عنه بكل ثقة و صرامة، وهو يحدّق في شبهه البادي مع الشمس وهو يتبعه و شعور يلاحقه غريب مشبوه بشيئ من المقت والحنان والعطف والاشمئزاز، حتى انعطعف مع أول منعرج وسلك مسلكه يتجه إلى المدينة فعرف سيكو أن صديقه قد ضاع إلى الأبد و أيقن أنه ضلّ في موج التفكير وشيطان الأيام، والفلسفة!
فانصدع متأسفا، يُهَمْهِم في قهوته المعدّة للشرب:
– قد صدق مشايخي الكرام رحمهم الله.
لتذهب الفلسفة و أصحابها إلى الجحيم.
بقلم/ يانكيني عمر