(للوصول إلى الذات لا بد من التخلي عن الذات)
هذا المصطلح الغامض والجملة العميقة يلخصان لنا قضية الذات. فهي عبارة روحية يدرسها السادة الصوفية رضي الله عنهم دراسة عميقة، تطويرية ثم تجريبية. الإنسان عندما يولد يأتي بشكله الأصفى وهيكله الأسنى جسميًا وروحيًا، فهو كاللبن الصافي من شدة النقاء والصفاء. لكنه يأتي في مجتمع معين، وفي قوم معين، وفي ثقافة معينة، فيتأثر منذ ولادته بهذه الأكدار والعصارات التي تغشى على شخصيته الحقيقية التي ولد بها وحقيقته الذاتية التي أتى بها إلى الدنيا. ينتهي وهو في سن البلوغ يحس بفراغ ناتئ في ضميره لا يستطيع أن يحدث أحدًا عنه، فهو الآن شاب، أصبح كل الناس إلا نفسه.
يبدأ الشاب أو الفتى رحلة تكوينية روحية لاستعادة وكشف ما فقده في طريقه في سن البلوغ: نفسه وشخصيته. فهو طفل أراد أن يسعد أبواه، فلبى رغائبهم أحيانًا رغمًا عن نفسه، فصار عادة عنده فعل ذلك. كان يريد أن يوصف بالطالب النجيب، فقال وأعاد ما طُلب منه معلمه وأستاذه أحيانًا وهو يكبت في نفسه آراءه واقتراحاته وأحلامه، فصار عادة له التنازل عن آراءه. ينتهي الطفل بين هذا الكم الهائل من التشويه والتملق والتقليد الذي يشجعه عليه مجتمعه وعادته، قد ضل طريق حياته وهو المسؤول عن حياته.
ما أكثر الناس على هذا الحال من الضياع الشخصي والضلال الذاتي، فهم يشعرون بالفراغ والخلو لكن لا يدرون لماذا؟ الجواب سهل، وهو أنهم ضلوا عن ذواتهم وشخصهم ولا يكاد لهم وجود في شخصيتهم وحياتهم. لكن كيف العثور على الذات بعد الضياع والضلال؟
يقول الكاتب المالي الكبير والأديب الشهير أمادو حمباتي باه، وكان صوفيًا متعمقًا رضي الله عنه، تعقيبًا وتعليقًا على أحد مؤلفاته: (درس الحكاية – وكان الكتاب حكاية -، هو بحث الذات في نفسك، والحصول عليها في ذات النفس. لا تبحث عن نفسك في الخارج. لستَ موجودًا في خارج نفسك بل في نفسك).
البحث عن الذات أمر داخلي، يعني بلا مداخلة أي واسط خارجي، وهذا ما يثبت مصداقية المقال (للحصول على الذات لا بد من التخلي عن الذات). فالمراد بالتخلي عن الذات هي الأغلفة والستائر المحيطة بالذات التي تعوق من الوصول إلى كنهها وعينها، وهي أخلاق وأوصاف نتخلق بها كل يوم مثل الكبر والغرور وحب الشهرة وحب المال إلى حد الجشع، فهي أوصاف تغشي البصيرة عن البحث الحثيث عن الذات الحقيقية. زادت على هذه العوائق والعراقيل المعاصرة مواقع التواصل الاجتماعي، التي بإرادة من صانعيها – أو لا – زادت الطين بلة!
فهذه المواقع التواصلية شغلت الفراغ القليل الذي يقضيه الإنسان مع نفسه متخليًا عن ضوضاء العالم وتشويش الجماهير. الذات تتجلى في الخلوة والانفراد والتأمل الحكيم في خطواته ثم النقد الشخصي لزلاته وعثراته. هناك ترتقي الذات وتصفو من كدر الحياة وأدرانها.
ذاتك هي هوايتك في الحياة، ليست التي ألزمتك بها قبيلتك أو والداك، ذاتك هي آراؤك الشخصية التي تبنيت اقتناءها بإرادة منك بلا إجبار أحد، ذاتك هي اختياراتك اليومية من طعام أو شراب أو موسيقى أو فيلم أو كتاب. كل هذه الاختيارات العادية تسيل في قرار الذات الحقيقية النقية من التأثير الخارجي والتشويه الاجتماعي.
لتعثر على ذاتك في صورتها الأسمى وفي هيئتها الأرقى، كن محبًا للخلوة والانفراد مع نفسك بلا أي هراء يحدثه العالم حولك، فذاتك الحقيقية لا توجد عنده (العالم). اقضِ وقتًا طويلًا معها متحدثًا عن آرائك البيضاء والسوداء على السواء، آرائك التي لن تفاتح أحدًا عن مضمونها خجلًا وحياء أو خوفًا وتقاة، وتحدث معها عن أخطائك التي ارتكبتها فهي أول من يسامحك قبل الآخرين، واعتذر لها وعِد لها وعودًا لن تخلفها، ثم استضف في خلوتكما – إن شئت – كتابًا فهو أهدأ الأصحاب وأنصت الأتراب، لن يشوش عليكما أو يزعج لقاءكما، وأضف ضيفًا آخر يعبّق نجواكما هو القهوة أو الشاي. فلهذين الشرابين قوة لتنشيط الذاكرة وترويح الأعصاب. وإن أسعدك الحظ فاصطفِ لهذا اللقاء موسيقى تعجبك إيقاعها وتستميلك رنينها، وتذكر (لا يستحق التقدير من لا يتحمّل المكوث متخلّيا مع نفسه).
بقلم/ يانكيني عمر