إن محاولة الإحاطة بكل الفنون والعلوم أشبه بالسعي لاحتواء محيط في كفّ اليد؛ فهي مغامرة تحفها استحالة، وتحدّها طبيعة الإنسان وحدود قدراته المعرفية والزمنية.
حتى في العلوم الأقرب إلى تخصصك، ستجد نفسك أمام تفاصيل تتشابك، وتفرعات تتباعد، تجعل السيطرة عليها كاملةً ضربًا من المثالية. إدراك هذا العجز ليس مدعاة للإحباط، بل هو وعي جوهري سيقودك إلى منهج أعمق وأدق: منهج فهم الأسس ورصد النشأة، كما تحدثنا عنه أستاذنا الشيخ عبدالله الشهري. هذا المنهج سيقودك لاكتشاف شبكة العلاقات التي تربط بين هذه العلوم وأخواتها.
على سبيل المثال، نظرية التطور التي قدمها داروين في كتابه أصل الأنواع لم تنشأ فجأة، بل جاءت نتيجة تراكم معرفي طويل. قبل داروين، كان لامارك قد تحدث عن تحول الكائنات، وقدم علماء الجيولوجيا مثل تشارلز لايل رؤى مهمة حول تغير طبقات الأرض عبر الزمن. فهم هذا السياق التاريخي يجعل النظرية ليست مجرد فكرة منعزلة، بل ثمرة شبكة معرفية متشابكة، تتجلى فيها أصول الأفكار ومواطن استمدادها.
وحين تستوعب السياقات التاريخية للأفكار وتدرك تطورها عبر الزمن، تصبح على دراية ليست فقط بالعلم ذاته، بل بأصوله ومآلاته ومجالات إمداده.
هذا المسلك يرفع ملكاتك العقلية والمعرفية، ويهذب أدواتك النقدية، بحيث تُصبح قادرًا على التمييز بين العمق السحيق والزيف السطحي.
إن إدراكك لتاريخ المفاهيم ولأنماط الاتصال بينها يختصر عليك دهاليز التيه، ويوفر لك خارطة واضحة تُعينك في تمييز العلماء الحقيقيين عن أدعياء المعرفة، وتُرشّد خياراتك بين الكتب والأبحاث، فتختار الأصيل منها، وتتجنب طوفان الزيف الذي يجتاح الأفق المعرفي في عصرنا.
رحلة المعرفة في جوهرها يا جُمعة ليست في امتلاكك لكل الإجابات، بل في صياغة أسئلة أعمق، وفهم الجذور التي تُغذي الأغصان.
وحين تلامس جذور الأفكار، تتغير علاقتك بالعلم؛ فتصبح طالبًا للحكمة، لا مجرّد جامعٍ للمعلومات.
بهذا السعي، تتحول من مستهلكٍ للمعرفة إلى خالق لها، ومن متلقٍّ سلبي إلى مشارك فاعل في نسيجها المتجدّد.
بقلم/ الربيع إسماعيل