بقلم/ ابتهال أزهري
(على الدموع أن تغسل الأرواح لا أن تغرق فيها)
حين تتكاثف الغيوم في قلب الإنسان، يكون الألم صامتًا في البداية، متربصًا بين ثنايا الروح كضوء خافت لا يكاد يُرى.
لكنه يتغلغل، يثقل الصدر، ثم ينفجر في هيئة دموع.
هذه الدموع، كما أدركتها الأم، لم تكن مجرد ماء مالح يسيل، بل كانت شهادةً على أنها ما زالت حية، وأن قلبها رغم انكساراته ما زال يعرف طريقه نحو النبض.
كانت تجلس على حافة الليل، تراقب ابنها الذي يمضي نحو المجهول، نحو المصير الذي يختبئ في الأزقة الضيقة للمدينة، حيث العيون تترصد، والأقدام تركض، والأفكار تتلاقح في العتمة.
كان الشقاء يحفر وجوه العمال كما تحفر الرياح أخاديدها في الصحراء، لكن خلف هذا الشقاء كان هناك بريق صغير، يشبه نغمة منفردة في مقطوعة بيتهوفن، نغمة تكاد تضيع وسط الضجيج لكنها تصر على البقاء.
منجد باخوس، في “رماد الآلهة”، كان سيقول إن الأحلام تنبت حتى في أكثر الترب قسوة، وإن البشر، مهما اشتد عليهم الظلم، يبتكرون طرقهم السرية للبقاء.
وهكذا، كانت الأم تعرف أن ابنها لن يكون مجرد جسدٍ يتنقل بين المصانع، بل فكرة، فكرة لا يمكن سحقها كما لا يمكن سحق الموسيقى، لأن النغم الحقيقي يبقى يتردد في الهواء حتى بعد توقف العزف.
أما الآن دو بوتن، في “عزاءات الفلسفة”، فربما كان سيهمس لها بأن الألم ليس عدوًا، بل معلمًا، وأن في الدموع حكمة لا يراها إلا من مر بالتجربة.
كان سيقول لها إن سقراط واجه موته بابتسامة، وإن نيتشه رأى في المعاناة بابًا نحو القوة، وإن الإنسان، حتى في أضعف لحظاته، يمتلك قدرة سحرية على تحويل وجعه إلى معنى.
وهكذا، أدركت الأم أن العزاء الحقيقي ليس في الهروب من الدموع، بل في تعلم الرقص معها، وأن الطهارة ليست في الخضوع، بل في التمرد، وأن الحياة ليست إلا سيمفونية طويلة، بعض مقاطعها حادة، مؤلمة، لكنها تنتهي دائمًا بنغمة عالية، واضحة، خالدة.