أحمد موسى محمد- طالب جامعي-تشاد
تبتدئ القصص والروايات المثيرة للدهشة عندما تغلق الأبواب في وجوه صانعيها، فكأن الحياة أصرت على أن لا تعطي دون مقابل، ولربما يلحظه الكثير في هذه الساحات تلك المعالم التي تبدو لنا بازرة وتلوح في أفق الإبداع والابتكار، وما تمضي على ذلك بضعة أدهر حتى تنقض وتندثر، كل ذلك لمحته فيّ عيانا، أنا واحد من الذين اشتعل في دواخلهم وهج الخيال والشعر وآسرتهم محبة القافية،
نبوحُ بالشعر علّ الشعر يسعفنا * لا البوح يجدي ولا الأقلامُ ترتاحُ كنت قد ابتدأت تجربتي مع الشعر من الصف الثالث الإعدادي هممت أن أكون شاعراً، شاعراً، شاعراً، لا كالذي يفعله الطلبة والطالبات على أنهم يكتفون بنظم الحروف ورصّها على سماوة الشعر بذلك تكون قد ملئت أمانيّهم بمراميها، أحببت الشعر حبا جما، أحببته لحد عميق، زاملته وجالسته طوال عمري، وتذوقته من عهد الصبا إلى ريعاني الآن، وارتشفت من قهواه أعذبها، وقضمت من تفاحة القصيدة علويّتها، حتى سمت في قلبي على كل إيثار يستعذبه الذوق والمكمن الوجداني، ذلك لأنه سلواني حينما تدلهمّ عليّ عثرات الحياة، فأسلّي به نفسي، وأنسيها به صروف الدهر والأيام، فهو كعبة الذوق والمقام، وروعة الحسّ والاهتمام، فغدت تنير بمشكاته الأعوام، وترتفع به أعوام وتهوى به على جدث الذل أعوام، في الفصل بين الحصة والأخرى أقرأ الشعر، على الباصات بين المدرسة والبيت أقرأ الشعر، وعند البقاء لمفردي أقرأ الشعر، وعندما أكون رديفا على الدراجة لزميلي بين الجامعة والبيت أقرأ الشعر، كانت القصيدة لا تفارقني حتى في أيام رمضان عندما كان الجميع يترك عمله للتفرغ للقرآن كنت قد جعلت لنفسي لحظات لأتذوق من لذاذة الشعر ما استطاب، قرأت شعر الجاهلية إلى هذا اليوم وحفظت الكثير واستوقفت على كثير من الشعراء الذين صنعوا من كينونتي أعظمها، على مقدمتهم البردوني، فامرؤ القيس فالمتنبي، فالثبيتي، فالبحتري، فجرير، فابن أبي ربيعة، فالذبياني،. وغيرهم الكثير من النوابغ، قال أحد العلماء “الشعر ضرورة ولا أدري لماذا؟” لم أكد أدرك لم احترقت لأضيئ القافية، حتى جاءت لحظة أعدّ فيها ما أحفظه فسئمت من غزارة ما خزّنت يومها لم أكن أدوّن من جمال القصيد كثيراً، فقلت أبتدئ التنظيم، ففوجئت بإباء قريحتي التي لم تألف النظم كثيرآ سوى الحفظ، وكان دافعي الوحيد إلى مظلة الراحة الشعرية والوصول إلى شواطئ الأمل هو الإصرار والإقدام وعدم اليأس، لأن سلّم الشعر لن يرقه الذي لا يعلمه يقول الحطيئة الشعر صعبٌ وطويلٌ سُلّمه* إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمُه
بصقتُ على وجه العرقلة وتابعت طريقي وراكمتُ كلام الناس تحت حذائي، لقولهم عني”علمي ما دخله بالشعر” هذا أيسر منقول عنهم، نشب اليأس أظفاره ليصد عني، فاندفعت مصرّا إلى الأمام، كانت التجربة تجربة ستّ سنوات على اتصال، على ميلاد القصيدة في جعبتي وارتفاع مئذنة القوافي في صميم قلبي الدفاق،وزغردة طير الأوزان على أنقاض بستاني المرموق،هذه من جهة وعلى صعيد آخر كانت البلدة لا تهتم للبراعم الصاعدة، والمواهب الشابة، والتحف الحياتية، من جهة أخرى، يحدث أن أنقطع مدة وجيزة عن عنها لأجل اشتغالي بالامتحانات والدوافع، ولكن أقول قول الزهاوي:
أنت ياشعر خالد*** أنا ياشعر هالكْ
أنت ياشعر كُلُّما أنا *** في الكون مالكْ
ثم تنبجس من ناحية أخرى قوالب الإبداع الفني الشعري وتلك مزايا البارز العائش للشعر إيماناً به، فأتعبتني كثيراً كنت لا أجد الذي أحاول الكتابة عنه والذي يأتي على خاطري وأبثه لا يعجبني تماماً وكلما عدت لقراءة أعمال الفحول اضررت إلى محو ما أسميته شعراً علني أحظى بمحاولة تستحق البقاء بعد فنائي، يقول الجميل مضيفاً
الشعر ما عاش دهراً بعد صاحبه *** وصاحب الشعر تحت الأرض مدفونُ
بعد أن تفاقمت على مقلتي دفقات الوجع والأنين، حنّت عليها القصيدة لأول مرة، وهذا انبثاقي الألين المحفور في سويداء الذاكرة، مرحلة التدوين أضحت لي اليأس الأكبر، تنقطع الخواطر أثناء الكتابة وتارة تأتيني بلا تصوير، وطوراً تأبى أن تكون ديباجتي سيّالة، في كل كرة، أبدو مشغولاً لفتح دهليز شيء ينقصني، حتى الآن وتلك خلاصة تجربتي.