مصعب حسين ” احرار “
كاتب وناشط
السودان
إن دواعي القرآنِ ومعانيه تدفع الانسان دوماً للترقي في معرفةِ نفسه ومعرفة ما حوله من الاحداث وتدعوه للنظر في العوالم وتقلبات الأيام والبحث عن الحكمة من وراء الخلق، والقرآن الكريم لا يحتوي على التعاليم والاحكام فحسب ولكّنه يؤسس أولاً للإيمان وللفطرة ويُقيم في النفس المعرفة الضرورية للغاية من الخلق والمصير.
الناظر لسورة ( الضحى ) يرى أنها تريد أن تصِل بالإنسان لفكرة أساسية فهي تحتوي على قيمة مهمة تدفع النفس لترك القنوط أو اليأس، وتعلّمه أن الحال يتقلّب بين شدّةٍ ورخاء كتقلّب الحياة بين ضحى وليل. والقسم بالضحى وبالليل إذا سجى قسمٌ بتحويل حال العباد المؤمنين بالله من الاستضعاف الى العزة والقوة وهم يواجهون ظُلمات الضلال وفساد الانظمة الاجتماعية.
﴿وَالضُّحى وَاللَّيلِ إِذا سَجى﴾ [الضحى: ١-٢]
إن تقلّب الليل والنهار آية من أعظم آيات الله في الكون، والغافل عنها غافلٌ عن خالقها، والضحى يحمل معاني الإشراق وتجدّد الحياة بالنور ليستأنف الناس معاشهم ويقوموا بدورهم في العبادة والعُمران ويؤدوا وظيفتهم في هذه الأرض.
وكذلك الليل ضروري كضرورة الصباح، ضروري لأن الانسان لا طاقة له بأن يواصل ليله ونهاره في الكّد والسعي، فقد منحه الله وفقاً لفطرته قدرة محدودة، فهو لكي يواصل على سجيّته وطبيعته يحتاج كذلك للّيل الساجي الذي يتناسب مع نومه وسباته ويتّسق في ستره مع سائر وظائفه ولذلك شبّه الله في مواضع أخرى الليل باللباس لستره وغطائه للإنسان ﴿وَهُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ لِباسًا﴾ [الفرقان: ٤٧].
ولعظمةِ هاذين الوقتين وما يحملانه من الدلالات والعِبر والمنافع أقسم الله بهما لعظيمِ شأنهما وجليل قدرهما في حياة الناس والأنعام والنبات وسائر المخلوقات التي يعرفها الانسان والتي لا يعرفها كذلك، فليس الانسان وحده المستفيد من تقلّب الليل والنهار.
وفي هاتين الآيتين يكمنُ موضوع مقالنا عن هذه السورة الجليلة، إذ أن هذا التقلّب يبعث في المصاب باليأس الامل فالله الذي يقلّب الضحى والليل يستطيع أن يقلّب حال الناس من الفقر إلى الغنى ومن الحاجة إلى الكفاية ومن الضلال إلى الهداية، وسيأتي في بقيّة آيات السورة تبيان ذلك.
﴿ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى﴾ [الضحى: ٣]
وقد كان المشركين يقولون أن ربّ محمد قد تركه وانقطع عنه بتنزيل الهدايات والوحي، والله هنا يؤكد لنبيّه أنه ما تركه ولكّنه ينقطع ويأتي، تماماً كانقطاع الليل والضحى وإتيانِهما، وهي كذلك إشارة للمؤمنين أن رحمات الله لم تنقطع عنهم أبداً إنما هي واصلةٌ متصلة بهم وإن كانوا في حالِ شدة او فقر او حاجة.
﴿وَلَلآخِرَةُ خَيرٌ لَكَ مِنَ الأولى﴾ [الضحى: ٤]
وهنا اللفتة العظيمة، أن الآخرة خير من الدنيا، فإن كانت الدنيا تتقلب فيها الاحوال كتقلّب الضحى والليل فإن الآخرة دار القرار ودار الثُبوت فليس فيها تقلّبُ أحول إنما هي نعيمٌ لا ينقطع ولا يتقلّب ولا تشوبه الاحزان ولا تقطعه المصائب كما قال الله في موضع آخر ﴿لا مَقطوعَةٍ وَلا مَمنوعَةٍ﴾ [الواقعة: ٣٣] وقال كذلك ﴿خالِدينَ فيها لا يَبغونَ عَنها حِوَلًا﴾ [الكهف: ١٠٨] فلا يتحوّل حالها من حال إلى حال كما هو اليوم. والنظرُ بعين التأمل للآخرة أدعى للصبر على الأولى وما تحمله تقلّبات، فرسوخ اليقين بالحياة الآخرة وأنها حقاً دار البقاء والنعيم يدفع بالانسان الى الرضا بالنوازل الدنيوية العاجلة فإن كانت شراً صبر وإن كانت خيراً شكر.
﴿وَلَسَوفَ يُعطيكَ رَبُّكَ فَتَرضى أَلَم يَجِدكَ يَتيمًا فَآوى وَوَجَدَكَ ضالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغنى﴾ [الضحى: ٥-٨]
وهنا تتجلى الغاية الأساسية لسورة الضحى، إذ يُبشر الله نبيّه والمؤمنين المتدبرين لهدايات القرآن يبشرهم بالعطاء بعد الحرمان ويذكّرهم كذلك بنعمه عليهم من قبل فهو الذي خلقهم ورزقهم وهداهم وأغناهم، فإن عرض عليهم عارضٌ من نقص فاليتذكروا نعم الله عليهم وليستبشروا بعطاء الله تعالى العاجل والآجل.
ولابد للانسان إذا أغناه الله وكفاه مؤنة الحياة الدنيا من الغنى بعد الفقر ومن الهداية بعد الضلال ومن الإيواء بعد اليُتم، لابد له أن يشكر فلا يطغى فيقهر اليتامى فهو كان في مِثل حالهم، ولا يستكبر فينهر السائلين، وأن يُحدّث بنعم الله عليه وعلى الناس فيذكر أنها من فضل ربّه. ولذلك ختم الله هذه السورة بهذه التعاليم. فإن كان لحال الضّعف آداب من الصبر والتعفف، فإن للغنى آداب التعاطف والتراحم والإنفاق والتواضع والشكر.
ولذلك قال :
﴿فَأَمَّا اليَتيمَ فَلا تَقهَر وَأَمَّا السّائِلَ فَلا تَنهَر وَأَمّا بِنِعمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث﴾ [الضحى: ٩-١١]