ن. م. جبران
• لا بد لكل من يتنفس على هذه الأرض أن يعاني، وأن يذوق طعم الخوف والحزن، الحرمان والفقدان، والعجز والبؤس.
فالمعاناة كفهموم هي شيء نسبي يختلف من مخلوق إلى آخر، كما أن مفهوم السعادة نسبي، ويختلف من شخص إلى آخر.،فالإنسان مقارنة بالكائنات الأخرى الموجودة على هذا الكوكب يحتاج إلى أكثر من المأوى والمأكل والمشرب، فهو يحتاج إلى الأمان والحب والدفئ.. إلخ.
وقد تغيب هذه الاحتياجات بوجود ما تم ذكره سابقاً من حاجات تضمن البقاء، فهذه بالنسبة للناس تعتبر حقوقا أساسية، وهذه الحقوق تأتي بعد نضال، ويتم الكفاح من أجل الحفاظ عليها؛ لأنه لا توجد يوتوبيا يتساوى فيها الجميع بالحقوق والواجبات، ولا يملك فيها كل شخص كل شيء، وهنا يأتي الصراع من أجل تحقيق العدالة بين البشر، وحين سئل إدوارد غاليانو عن جدوى السعي لليوتويبا إذا كان لا يمكن الوصول إليها؟ أجاب: تكمن جدوى اليوتوبيا في السعي إليها؛ لأنه لم يكتب على ابن آدم السعادة أو الشقاء، بل كتب عليه أن يسعى لإرساء قيم السلام على هذه الأرض، ولا يولد من المعاناة شيء سوى الغياب والعدم، بل من السعي نحو الحرية، يولد الحب والجمال ومن الحرية يولد الإبداع، وبالحب ينمو الجمال ويزدهر.
• تكمن نسبية المعاناة والسعادة، في كونهما زائلان، فكل ما هو زائل على البسيطة باطل، فالتجربة الإنسانية شاملة ولا تقتصر على فئة معينة أو طبقة محددة، فالمجتمع مترابط فيما بين أفراده وطبقاته، وكل طبقة لها خصوصياتها، والقول بأن البرجوازين والمرفهين لا يملكون قصصاً يمكن أن يتم تناولها أدبياً، ليس بقول واقعي مئة بالمئة، والقول أيضاً أن الكادحين فقط هم من يعيشون حقيقة الواقع، ولهم قضايا تحتاج إلى معالجة فنية، قولٌ باطل، فلكل فئة من الناس قيمها التي تؤمن بها، وأسلوب في الحياة يشوبه الكثير من النقصان، حتى وإن تم فالحياة ليست مثالية، والواقع هو الواقع، ليس بالتراجيديا ولا هو بالدراما، بل مجرد مجموعة من الأحداث التي تشكل التجربة الإنسانية، والواقعية هي التأمل في هذه التجربة، ولا يمكن تلخيص التجربة الإنسانية في الصراع ما بين الخير والشر، أو في الألم والمعاناة بل هي محور ذاك الصراع، وذلك الألم.
والقول بأن الشخص البرجوازي لا يصلح لكتابة الأدب، قولٌ فيه الكثير من الإجحاف، فالكتاب والكاتبات من أمثال أورهان باموق، ورضوى عاشوى، وإحسان عبدالقدوس، إليف شفق، وهاروكي موراكامي، فرجينيا وولف، وغيرهم الكثير، جاؤوا من طبقة برجوازية، مثقفة تقرأ في الأدب، فالرواية بشكلها الحديث ظهرت بصعود البرجوازية في أوروبا ما بين القرن السابع عشر والقرن العشرون، لأنها كانت على قدر من الوعي المعرفي، ما دفعها لكتابة نصوص تناقش المواضيع والأفكار السائدة بعيداً عن البطولات والفروسية والأساطير التاريخية.
• حين نقرأ أعمالاً لكتاب مثل محمد حسن العلوان وسعود السنعوسي، نجد أن قصص تلك الروايات لا تخاطب فئة معينة، أو تناقش همهوم طبقة ما، بل تركز على تلك المآسي التي تصيب جميع الناس في الماضي والحاضر، وأيضاً المستقبل، وفي الحرب والسلام، وفي رواية مثل فئران أمي حصة للسنعوسي، نجد نص الرواية يخاطب جميع الكويتيين دون استثناء.
ولم يكن محور النص التركيز على مشاكل فئة معينة من فئات المجتمع، بل كان التركيز على مشكلة يعاني منها جميع مواطني الكويت، وهي الطائفية، ومحاولات أبناء ذلك الوطن إرساء قيم التسامح والتعايش والسلمي بين أفراد المجتمع، بأسلوب خيالي، يحاول أن يسخر من عبثية الواقع، وعندما نقرأ مثلاً رواية القندس لمحمد حسن علوان، نجد القصة تتحدث عن هشاشة العلاقات الأسرية بين أفراد الطبقة المتوسطة العليا، والتي تحكمها المصالح، وهناك الكثير من الأعمال الأدبية الأخرى التي تناقش مشكلات كالحرب التي لا تعرف غنياً ولا فقيراً، ومن يقرأ لآذار نفيسي يدرك حجم المعاناة وكيف أنها تجربة إنسانية يخوضها الكل، ففي مذكراتها (أشياء كنت ساكتة عنها) تتحدث عن سنوات الحرب الإيرانية العراقية، والويلات التي قاسها الناس. وما قاسته هي من منع للسفر وغياب للحرية، ولوطن بدأ يفقد ملامحه المألوفة، وهنا يأتي القول بأن آذار نفيسي لم تكن معدمة أو بائسة، بل كانت من عائلة مرموقة في طهران، فوالدها كان عمدة للمدينة ووالدتها كانت نائبة برلمانية، وقد ولدت آذار وعاشت حياة برجوازية، ولكن هذا لم يمنعها من أن تعيش تجربة الثورة وتشهد الفظاعات التي ارتكبت باسمها، وتتأثر بالواقع من حولها حتى لو لم تعاني من طغيان السلطات، وتعيش سنوات طويلة في وطن يدفع بأبنائه للموت، حتى لو لم تفقد أحداً ممن حولها وتصمد في وجه كل هذا الخراب، ولكنها في تلك الفترة اختارت الأدب قراءة وكتابة لأن الكتابة على حسب قول آذار هي فعل وجود في زمن يتم فيه مصادرة أبسط الحقوق والحريات.
• المعاناة ليست حكراً على مجموعة معينة، والأدب ليس وسلية لنواح البؤساء بل هو نتاج سعي الإنسان لمحاولة فهم العالم، عبر تأمل الواقع ورصد تحولاته، والبحث عما هو مشترك بين جميع سكان العالم، ومحاولة الإجابة على الأسئلة الكبرى.
والإبداع الأدبي لا يولد من رحم المعاناة، فالمعاناة هي جزء من تجربة يمر بها الإنسان، ولا تمثل جوهر الأدب، فالأدب كما يقول أورهان باموق: مصنوع من الملائكة والشياطين! وكتابة الأدب، وبالأخص كتابة الرواية لا تحتاج إلى شخص عاش تجارب مختلفة، لأن الرواية ليست بالسيرة الذاتية، يحكي فيها المرء ما مر به من إنجازات وإخفاقات، بل هي عملية إبداعية لخلق واقع موازي، تحتاج إلى شخص واع باللحظة وما وراءها. وقادر على التقاط التفاصيل الهامشية، بما يخص حياة الناس، وتحويلها إلى أفكار ومشاعر سردية، ففعل الكتابة ليست بطولة أو أيديولوجيا، بل مسؤولية فكرية وغاية وجدانية، وفعل استكشاف للذات.
والرواية لا تكتب من باب التجربة فقط، بل من باب الفضول، والتعاطف مع تجارب الآخرين والالتزام تجاه فكرة أو حلم، وإعادة تعريف الأشياء.