قراءة في رواية( الآخر) لدوستوفيسكي
حمزة محتا- أستاذ اللغة العربية
#المغرب
ما ال”أنا”؟؟ سؤال وجودي تطرحه الذات على نفسها، تعود إلى التاريخ، الأساطير، اللاهوت…، إلى نفسها لعلها تأتي بقبس من نور أو تجد عليها هدى، لكن السؤال زئبقي ومراوغ لكل جواب يعتقد أنه واحد ونهائي.
تقف الذات أمام المرآة، فتسأل نفسها: من “أنا”؟ تجيب الذات المرآوية: أنت هو أنا !! أنت آخري الشخصي!، فترتبك الذات وتعود بالخيبات، وتفقد الثقة في كل معرفة خارجية.
قبل أن تكون المرآة كان الآخر، ليس الآخر الخارجي فحسب، بل- وهذا هو المهم- الآخر الداخلي، أو الذات الأخرى Altre -Ego، هذا الآخر المقموع والمكبوت، الذي ظل حاضرا داخل الذات؛ لكنها كانت تجهل حضوره أو بالأحرى كانت تتجاهله.
وهنا لا بد أن نؤكد على أن سؤال “الأنا” معطوف على سؤال الآخر، أي الأنا في علاقتها مع الآخر، فلكي تفهم الأنا ذاتها لابد أن تراجع علاقتها بهذا الآخر الثاوي- القابع داخلها.
كأن الذات هنا تشبه تلك الكلمات التي تحمل ضدها( الضد هنا بالمعنى اللغوي والأخلاقي)، فمثلا يقول هيراقليطس:« ما يميز الظهور هو الاختفاء».
ونقرأ في اللسان:« خفا البرق خفوا: لمع.
خفا الشيء خفوا ظهر…خفي الشيء أخفيته؛ كتمته، وخفيته أيضا أظهرته، وهو من الأضداد..». و السر أيضا من الكلمات التي تحمل ضدها« ما يظهر السر هو الاختفاء ذاته. اختفاء السر هو ظهوره، لكن ظهوره كاختفاء»( القراءة رافعة رأسها، ع. السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط.1، 2019، ص.64.).
إن راوية” الأنا الأخرى” لصاحبها الأديب الروسي دوستوفسكي، التي اخترنا الاشتغال عليها، تعالج تيمة الذات الأخرى، تلك الذات التي ترافق الأنا في رحلتها الوجودية الأبدية.
مع دوستويفسكي نفهم أنه ليس هناك ذات واحدة ووحيدة منعزلة عن الآخرين، الذين كلما حاولت الذات الابتعاد والهروب منهم، إلا وتعمق حضورهم داخلها، فتصبح آنئذ مسكونة بهم، لأن ما تحسبه غائبا في عزلتها، هو حاضر داخلها..، وكما قال الشاعر اللبناني بسام حجار: “أبعد الأمكنة ما تحمله في الداخل”.
جوليادكين الشخصية الرئيسة في الرواية، شخصية يظهر من اسمها أنها بسيطة في حياتها ورؤاها وأحلامها، ساذجة في تصرفاتها وعلاقتها الاجتماعية، حيث أكد مترجم الرواية، أن اسم جوليادكين يعني في الروسية: “الشخص الساذج الموسوم بالنذالة والغباء”. جوليادكين شخصية سردية تشعر بالنقص لأنها ليست مرئية( الذات اللامرئية)، نتعاطف معه حين نقرأ ما يقوله لطبيبه:« ليس لدي ما أخفيه عنكم يا كريستيان إيڤانوڤيتش فأنا رجل ليس ذا شأن كما تعلمون(…) ولكي أكشف الأمر تماما فأنا أفتخر بكوني إنسان على الهامش، وليس ذا شأن» يضيف قائلا:« أتابع طريقي قدما يا كريستيان إيڤانوڤيتش وفي واضح النهار، ولا أعرف الأساليب الملتوية، بل أحتقرها، بل أحتقرها وأتركها لغيري.(…). أمقت الزهو، وأحتقر الرياء، النفاق، الدناءة، وأغضب من الوشايات والأقاويل والنميمة.». ص27.
إن الذات الروائية هنا تحاول أن تصف نفسها للمخاطب، في خطاب منسوج بلغة شعرية، وذات متكلمة في مقابل ذات متلقية، فهل تستطيع الذات فعلا أن تقدم وصفا كاملا وشفافا عن نفسها؟ وأن تصبح عارية تماما أمام الآخر؟؟
في كتابها ” الذات تصف نفسها” تؤكد الباحثة جوديت بوتلر على أن الذات دائما تخفق في هذه المهمة التي توكلها إلى لسانها الذي يلفظ ضمير “أنا”، هذا الضمير الذي يخفي أكثر مما يظهر، تقول الباحثة:« دائما ما يقدم المرء وصفه لنفسه إلى شخص آخر، سواء أكان حضوره متخيلا أم واقعيا، وهذا الآخر يؤسس مشهد المخاطبة بوصفه علاقة أخلاقية أشد أولية من المحاولة الانعكاسية في تقديم الذات وصفا لنفسها. فضلا عن ذلك فإن المصطلحات التي نقدم بها الوصف، والتي بها نجعل أنفسنا مفهومين لأنفسنا وللآخرين، ليست من صناعتنا، إنها اجتماعية في طبيعتها، وتؤسس لقواعد اجتماعية..»ص 63.
ما هي أداة الوصف؟ إنها بكل تأكيد اللغة، واللغة تقولنا بقدر ما نقولها، وتستعملنا بقدر ما نستعملها، إنها تشكل وعينا وإدراكنا لأنفسنا وللأشياء وللعالم.
اللغة نسق سابق الوجود عن حضور الذات في العالم، لهذا تخضع لهيمنته، وسلطته.
إن الغرض الأساس من تقديم الشخص وصفا لذاته، هو نزع الاعتراف من الآخر الذي يعد عنصرا أساسا في بنية المخاطبة، لكن كلما توغلت الذات في وصفها لنفسها وجدت صعوبة في استعادة قصة جسدها..، فهل نستطيع فعلا أن نسرد تاريخ ذواتنا؟
تقول جوديت بوتلر:« أن تكون جسدا يعني على نحو ما أن تكون محروما من القدرة على استعادة تامة لحياتك.
هناك تاريخ لجسدي لا أستطيع أن أتذكره..»ص. 88.
جوليادكين لا أحد يرغب في الاعتراف به، كلما دخل وسطا اجتماعيا، إلا وأحس فيه بالاغتراب والاستلاب. نقرأ في الرواية: ” وفي النهاية أحس بهم يلبسونه معطفه ويضعون قبعته على رأسه، حتى كادت عيناه تختفي تحتها..” يضيف السارد:” كان السيد جوليادكين في حكم الميت، كان ميتا تماما وبكل معنى الكلمة”. ص.71.
ينأى جوليادكين بنفسه عن الجميع، يختار العزلة والوحدة، في عالم أحلام اليقظة يعيش منشطر الذات. يظن أنه تخلص من الآخرين، لكنه لم يفطن إلى كون الآخرين يسكنونه، إن داخله يعج بالآخرين، إنها الحكمة التي تقول:(( لا يمكنك أن تهرب من نفسك..)).
لقد خلق جوليادكين لنفسه آخرا يشبهه تمام الشبه، آخر كان موجودا بالقوة، وعندما انعزل تجسد بالفعل، وإليكم ما جاء في الرواية:« كان الرجل المجهول جالسا أمامه على سريره، وكان كذلك يرتدي معطفه وقبعته مبتسما له(…). تعرف جوليادكين يقينا على رفيقه هذه الليلة، إن رفيقه لا يمكن أن يكون سوى نفسه هو، نعم إنه هو نفسه، هو السيد جوليادكين بشخصه، هو سيد جوليادكين آخر ولكنه يشبهه تماما، هو باختصار الذات الأخرى للسيد جوليادكين بكل ما تحمل هذه الصفة من معان..» ص.82
انقسمت ذات جوليادكين وانشطرت، حتى بات من الصعب أن نفرق بين جوليادكين وأناه الأخرى؛ “لقد كان السيد جوليادكين آخر غير ذلك، مختلف عنه، ولكنه مع ذلك مثل الأول(…) باختصار كان نسخة طبق الأصل منه، حتى إنك إذا وضعتهما جنبا إلى جنب أمامك، لم تكن لتعرف أيا منهما السيد جوليادكين الحقيقي والسيد جوليا دكين المزيف(…) أيهما الأصل وأيهما الصورة..”. ص.89
” في حين أنهما متماثلان تماما وكأن شخصا ينظر إلى نفسه في المرآة”. ص.93.
جاء في مقدمة المترجم عبارة تؤكد أن الآخر، هو” ذلك الشخص الذي نراه في المرآة حينما ننظر إلى أنفسنا.” من هو هذا الشخص؟ أ ليس في النهاية هو ذاك الذي نريد أن نكونه؟ شخص يحمل كل الصفات التي نتمنى أن تتجسد فينا.
لقد خلق جوليادكين لنفسه، في عزلته، “آخره الشخصي، لكي يتعرف على نفسه؛ بمعنى أن الآخر ضروري للذات من أجل أن تتعرف على نفسها. فلننصت ونصغي إلى الحكمة السقراطية:« إن عينا، إذن، تتطلع في أخرى وتحدق في أفضل ما فيها، فيما ترى بواسطته، يمكنها هكذا أن ترى نفسها هي بالذات..وإذا أرادت العين إذن أن ترى نفسها، يجب أن تتطلع إلى عين أخرى»، إن سقراط هنا يبين كيف أن معرفة الذات نفسها قاصرة، ما لم تنظر في أفضل ما في الآخر، بؤبؤ عينه، بحيث يصبح الآخر- الذي كان ولا يزال- مرآة للذات، ” وهل خطر ببالك أننا مجرد مرايا للمرايا التي نحدق فيها؟”.
لكن هناك فرق بين المرآة والآخر، فالأولى خادعة ومخادعة تشبه تلك المياه التي أوهمت نرسيس بأحاديثه، فالمرآة بهذا المعنى تجعل الذات تنكمش وتنطوي على نفسها وتتقوقع، أما الآخر فيجعل الذات تنفتح وتتناص وتتعدد، فالآخر هو الذي يكسر المرآة جاعلا الذات تدرك سمتها التعددية، فلو رمى أحد حجرة في المياه التي كان ينظر فيها نرسيس، لتحول وجهه إلى شظايا صور متناثرة، و لأدرك حينئذ كم هو الآخرين.
الآخر يخرج الذات من عزلتها، يحررها، هذا ما فعلته الذات الأخرى( جوليادكين الآخر) ب” بطلنا” عندما قابلها وقبلها، قبل آخيرا الدخول في حوار معها.« تأثر السيد جوليادكين أيما تأثر ورق قلبه كثيرا للضيف.
وعلى الرغم من كون الحكاية مألوفة للغاية غير أن كل كلمة فيها كان لها وقع قوي على نفسه، وكأنها كلام سماوي، أو نص مقدس.
نسي السيد جوليادكين، الشكوك الأخيرة التي عانى منها وفتح قلبه(…). لكن يبقى في الأمر نقطة واحدة تستدعي القلق، ألا وهي هذا التشابه العجيب..ولكنه ليس كارثة على العموم، فالإنسان غير مسؤول عن صنائع الطبيعة.. » ص. 109.
الحكاية!! أنها ذاك الكلام الغريب الذي تتشوق النفس إلى سماعه، إن لها دورا أساسيا في الترويح عن النفوس والأرواح، حيث يصبح فعل الحكي، فعلا علاجيا عكسيا؛ أي أن المريض هو المستمع، فقد عرفنا مع الديانة المسيحية شيء اسمه” الاعتراف”، حيث الذات تتحدث عن نفسها وعن كل الأشياء المتعلقة بها، من أجل أن تتحرر من عقدة الذنب، وفي التحليل النفسي، معروف أن الكلام ممنوح للمريض، أما الطبيب فيكتفي بالسمع وطرح الأسئلة المناسبة. أما في الحكاية فالأمر مختلف، ونستحضر هنا حكايات ألف ليلة وليلة، التي فيها مريض يسمع وهو شهريار وطبيبة تحكي وهي شهرزاد، وفي نهاية الحكاية يشفى شهريار من عقده النفسية، ويتبين أن الحكاية منحت شهرزاد الحياة، وشهريار الشفاء..، فهل يستطيع جوليادكين أن يشفى من عقده بسبب حكاية الآخر؟!!
تقول الحكمة الكفكاوية: ” مانبحث عنه يقطن قريبا منا”؟ فهل الآخر هو ما يبحث عنه جوليادكين؟
هل يكون الآخر هو موضوع رغبة جوليادكين؟
عند قراءة الرواية يصعب على القارئ حصر موضوع رغبة جوليادكين، وإذا ما نحن استعنا ب”مثلث الرغبة” الذي نظر له الباحث والمنظر رونيه جيرار: الراغب/ فاعل الرغبة( sujet du désir)، المرغوب/ موضوع الرغبة(Objet du désir، والتنافس( Rival)، يمكننا القول: إن جوليادكين لا يرغب إلا في ما يرغب فيه منافسه، سواء أكان واحدا، أم متعددا؛ بمعنى أن رغبته ليست نابعة من ذاته، بل تتأسس انطلاقا مما يرغب فيه الآخر.
حسب رونيه جيرار، كل ذات سواء أكانت فردية أم جماعية، ترغب في تملك ما يمتلكه الآخر، وترغب في ما يرغب فيه، إنها تتنافس وتتصارع معه، وكل رغبة تخفي عنفا تجاه الآخر المنافس، وهنا نتذكر قصة قابيل و هابيل، لهذا عنون رونيه جيرار كتابه ب” العنف والمقدس”، حيث العنف بالنسبة له يتفشى بين الأفراد والجماعات من خلال ” الرغبة المحاكاتية”،« بمعنى أن المرء لا يرغب في هذا أو ذاك من الأشياء لما للغرض المرغوب فيه من قيمة في ذاته، بل لأن امرءا آخر نظيره قد صيره له مرغوبا بفعل امتلاكه له، أو مجرد الرغبة فيه.» ص.8
وكل ما تقوم به الذات في محاكاة رغبة الآخر والسير على خطاه والتنافس معه، فإنها- أي الرغبة المحكاتية-” تنطلق بصاحبها أبدا نحو المستحيل، ولا تتغذى إلا على خيباتها المتواصلة. إنها ثمرة إرادة مسعورة بالحقد، حقد على الذات التي لا تمتلك إلا أن تجري في إثر الآخر، وحقد على الآخر الذي لا يفتأ يغري المريد بالتشبه به ويكفه عن ذلك في آن.”
ص. 10
الرغبة المحاكاتية توهم صاحبها برغبات مستحيلة مثلها في ذلك مثل “اليوتوبيا”، ما دامت هذه الآخيرة، -حسب بول ريكور- هي:” نتاج خيال جامح، أي المستحيل، هناك بين غير قابل للتحقق الآن والمستحيل من حيث المبدأ هامش وسطي، إنها تعد بعالم مثالي وطوباوي؛” إنها قلب لما هو في الواقع مجتمع مقلوب.”( بول ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، ص.402).
يمكن القول أن كل يوتوبيا مؤسسة على رغبة محكاتية، إنها تنطلق مما هو واقعي ومجسد، نحو ما هو خيالي ومجرد، إنها تتموقع بين ” الممكن والمستحيل والهامشي، بين المعقول (وإن كان قصصيا) وجنوني( مرضي).ص.404.
والسؤال الذي يجب طرحه هنا، هو: ما هو موضوع رغبة جوليادكين؟
إن الآخر بوصفه ذاتا لها هواجسها وأحلامها، ترغب في شيء جوهري، هو ” الاعتراف”، أن يتم الاعتراف بها بوصفها ذاتا متفردة، ومنفردة، وأن يتم الاعتراف بها باعتبارها قيمة وغاية في حد ذاتها..
إن هذا النوع من الاعتراف يصعب أن تحصل عليه الذات في مجتمع رآها مجرد عنصر لا قيمة له داخل النسق الاجتماع ،فالرغبة في الحصول على الاعتراف، ومن ثم الاحساس بالتفرد والحرية في مجتمع قائم على التراتبية والصراع الطبقي، لهو ضرب من المستحيل، هذه الحتمية الاجتماعية هي ما جعلت جوليادكين يصاب بالازداوجية، ازدواجية أكدت له أنه لا يمكن أن يهرب من الآخرين، فكيف ستهرب الذات من شي كان موجودا قبلها، إنها ” الغيرية”.
نقرأ في مقالة تحت عنوان: شرخ الهوية وانقسام الذات..، للباحثة وسيلة مجاهد، مايلي: « الغيرية l’altérité باعتبارها مغايرة للذات وفرعا آخر عن ((الأنا)) وانحدار الهوية، فما الغيرية إلا طيف من أطياف الذات، أو صورة أخرى عنها(…)، فالآخر هو الشبح المختلف والمرجأ أو المصير المؤجل الهوية، بذلك ستظل الذات مصابة بالآخر بشكل مزمن، فالعلاقة بينهما لا تفصلها إلا خيوط وهمية وطيفية هي نفسها تلك الصلات التي تربط بين الظل وصاحبه»ص.369
إن الأنا الأخرى لجوليادكين، ما هي إلا شبح عاد لتصحيح موت الآخرين في هويته، فأصبحت “أناه الأخرى” ظله الذي لا يفارقه، أحيانا يكبر ويصغر، بكبر الذات أو صغرها، أحيانا تطمئن له الذات وتنجذب، وأحيانا أخرى تنزعج من وجوده وقربه، فهو الغريب، والأنيس المألوف في نفس الوقت، فلنسمع إلى تساؤل جوليادكين المرتاب:« ولكن ماذا إن فشلوا في التفرقة بيننا… إذا وقع ذلك..إذا خلطوا بيني وبينه؟ كل شيء متوقع من هذا الوغد(…)، لا يتورع في انتحال شخصية رجل آخر». ص.144.
جوليادكين يعيش مزدوجا، منقسما، منشطرا، لكنه لايدري ولا يعي ذلك، يعيش داخل تخبطاته النفسية، كلما دخل مكانا إلا ووجد شبيهه، ذاته الأخرى، نقرأ في الصفحة 147:« وفي مواجهة السيد جوليادكين والذي كان صاحبنا حتى هذه اللحظة يعتقد أنها المرآة، رأى نفسه، السيد جوليادكين، ليس السيد جوليادكين القديم بطل قصتنا، بل الآخر السيد جوليادكين الجديد».
ما يحدث عندما تقع نظرة الآخر على الذات، هو أن هذه الآخيرة تتأكد من وجودها في العالم، فلا شيء يؤكد وجود الذات سوى الآخر، “فإذا كان- والكلام لبسام حجار- ليس ثمة من يظر إليك ويراك، فأنت إذا في حالة فقدان مظهرك”. (الأعمال الكاملة، ج/2، ص. 10).
لقد انفرد جوليادكين وانعزل بذاته، لكن في انعزاله ذاك شرخت هويته، فتهيء له آخر شبيه له، شبيه متناقض ومضاد، أزال عنه وهم مركزيته، وتأكد لجوليادكين أن كل مركز يحمل داخله هوامشه، إنها اللامركزية الذات في حضرة الآخر..، فقد أكد التفكيكي فيلسوف الاختلاف جاك ديريدا؛ أنه لا وجود لمركز نقي وخالص ومخلص لنقائه، لأنه لا وجود لتضاد خالص، بل كل مركز يحمل في داخله هامشا مضاد له.”( وسيلة المجاهد، ص.368).
بما تعبر الذات عن مركزيتها؟ بكل تأكيد تعبر عنها من خلال الصيغة التلفظية ” أنا”، كثيرا ما أشار جوليادكين إلى نفسه بهذه الصيغة:« أنا رجل يحب الهدوء».« أنا راض عن نفسي…» ص.23.
إن ذات جوليادكين هنا، ذات فاعلة متكلمة، تنجز رغباتها عن طريق الأفعال التكلمية( أقصد، أرغب، أريد…)، لكنها تفقد مركزيتها عندما تشرع في بناء خطابها، إذ كل خطاب يتطلب ذات متكلمة، وذات متلقية، وعندما تقوم الذات بتوجيه خطابها إلى الآخر، مستعملة الضمير (أنا)، فإنها حيئذ تكتشف أن خطابها حول نفسها مستحيل بدون وجود الآخر. وإذا ما نحن استعنا بمفهوم التناص كما أسسته الباحثة جوليا كريستيفا، فيمكننا القول، إن كل ذات تتناص مع مجموعة من الذوات، تدخل معها في علاقة حوارية، أي لا وجود لذات أحادية، بل إن التعدد هو سمة الذات الإنسانية.
إن القول يلزم الذات ويقيدها؛ لأن اللغة هي أيضا ” آخر” له سلطته على الذات المتكلمة، وهنا تجد الذات نفسها خاضعة لسلطتين: سلطة اللغة، وسلطة الآخر المتلقي، لكن، ويا للغرابة!! تتأكد الذات من وجودها من خلال هاتين السلطتين، وكأننا هنا بصدد قلب الكوجيطو الديكارتي، من “أنا أفكر إذا أنا موجود” إلى ” أنا أتكلم إذا أنا موجود”. كتب ميرلوبونتي:« ما يجعلنا نعتقد في فكر يوجد لذاته قبل التعبير، هي الأفكار المكونة سلفا والمعبر عنها مسبقا التي يمكن أن نذكر بها أنفسنا بصمت، والتي نمنح أنفسنا من خلالها الوهم بعيش حياة باطنة، لكن هذا الصمت المزعوم يضج في الواقع بالكلام، وهذه الحياة الباطنة هي لغة داخلية»( فريد الزاهي، الصمت لغة المعنى والوجود، ص23)..
لم يكن فعل التكلم بالنسبة لجوليادكين مفتوحا تجاه الآخر الخارجي المختلف، بل تجاه الآخر الداخلي الشبيه، كلام مفعم بتأنيب الضمير والسخرية من الذات، كان ” يلوم نفسه ويعذبها، بينما كان كل جسمه يهتز بفعل سرعة العربة على الطريق، كانت سخريته من نفسه بمثابة المرهم لمرضه، وكان كمن يكوي جراحه بالنار، ولذا فقد كان في قمة الاستمتاع وهو يفعل ذلك»(ص. 139). متعة جوليادكين هاته، تذكرنا بقصة قصيرة جدا للزهرة رميج، عنوانها: “إعجاب”-ضمن مجموعاتها القصصية: “عندما يومض البرق”، نقرأ في القصة«..(…) أحس تجاه نفسه باحتقار رهيب، فجأة شعر وكأن غشاوة تنزاح عن عينيه، فإذا بالزهو يملؤه وبقامته المنكمشة تتمدد بحرارة الإعجاب. وجد نفسه يردد حكمة لم يسمعها من قبل:(أنا معجب بنفسي لأني قادر على احتقارها). ص29.
يتعامل جوليادكين بنوع من الريبة والخوف والاحتقار مع ذاته( أناه الأخرى)، نسمعه يقول: “إنه فعلا ماكر لا يعرف الأساليب القويمة في التعامل وهو حقير متزلف هذا السيد المدعو جوليادكين”.ص143.
جوليادكين انفرد واستوحش، فرأى ما لا يرى، لقد رأى شبيهه، يتخيله، يتهيء له، إنه منافسه، يخبرنا رونيه جيرار أن الذات تؤسس رغباتها من خلال وسيط- منافس، حتى وإن اضطرت إلى خلق منافس وهمي، نقرأ في الصفحة 144: « ليظل هو النذل ولأبقى أنا هو الرجل الشريف، وسيقولون: إن هذا السيد جوليادكين النذل، تجاهلوه ولا تخلطوا بينه وبين الآخر، أما هذا فهو الشريف الطيب الرقيق والمسالم والموثوق به في العمل والذي يستحق الترقي في منصبه(…) سيحولني حينها إلى خرقة بالية..آه يا إلهي..يا إلهي…ما هذه المصيبة التي حاقت بي».
لا يتخذ الشخص من الآخر المختلف عدوا، بل عدوه هو شبيهه، تخبرنا (رواية الحرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصر الله عن مجتمع روائي تفشت فيه عدوى التشابه، حيث أصبح الشبه مرضا معديا، إلى درجة لا تستطيع معها التمييز بين الأصل والنسخة، ووصل الأمر إلى أن أصبح لكل فرد في المجتمع شبيهه، الشيء الذي كان السبب في انذلاع حرب دموية، كل شخص يقتل شبيهه، حرب يمكن أن نسميها:” حرب الأشباه”، نقرأ في الرواية ما يلي:« كان الواحد منهم يريد أن يكون الناس كلهم مثله، مثله تماما، أو كما قيل: على شاكلته!
يفكرون كما يفكر، ويعملون ما يعمل، والآن، تفضل وانظر لما يحدث، لقد أصبحوا يشبهونه، فماذا فعل، هل احتضنهم؟ لا، بل قتلهم!( 196)
إن الشبيه أشد عداوة من الآخر المختلف، يقول بطلنا لشبيهه: « إما أنت وإما أنا، لكن من المستحيل أن نكون معا؛ ولهذا السبب أبلغك أن رغبتك الغريبة والمستحيلة والمثيرة للسخرية، في الوقت نفسه، بأن تظهر أمام الناس كتوأم لي، وتقدم نفسك على أنك أنا، لن تأتي بخير أبدا، أرجو منك، ولمصلحتك، أن تبتعد(…)، وإلا سأكون مضطرا إلى الرد بأقصى درجات العنف على تصرفاتك تلك».(ص175).
لقد وجد جوليادكين نفسه، وهو يحارب شبيهه، يحارب كل الآخرين، هؤلاء الذين ما فتئوا يتحولون بدورهم إلى أشباه« وبدا له أن جميع من حوله، هم جميعا أشباه جوليادكين، يتحلقون حوله مسلسلة ضخمة تصدر ضجيجا هائلا وتندفع بقوة لتحطم جميع الأبواب »( ص.262)..
يتبين في نهاية الرواية أن جوليادكين قد خضع لسلطة الآخرين، الشيء الذي قاده في نهاية المطاف إلى السجن.
« شيئا، فشيئا بدأت الوجوه تتلاشى، حتى اختفت تماما في النهاية، أصبح لا يرى إلا شبيهه، ذلك الحقير الذي ظل يراقب العربة مدة أطول»( ص.266).
يمكننا تأويل كلمة ” العربة” هنا، بأنها الذات، وما الخيول التي تحركها سوى الجهاز النفسي الذي يتحكم فيها ويوجهها.
لقد تلاشى الآخرون، وبقي الشبيه؛ “الأنا الأخرى” ملازما الذات، إنه ظلها الأبدي، ظل يرافق الذات أينما حلت وارتحلت، ظل رمادي” ولو أشعلت فيه النار”، على حد تعبير الشاعر محمود درويش.
إن مصير جوليادكين في نهاية الرواية، عنوانه: الوحدة والعزلة، مصير كان يتوقعه، يقول:« واحسرتاه، لقد توقعت نهاية هذا كله منذ زمن بعيد» ص. 267.
جوليادكين توقع نهايته، ويمكننا القول أن النهاية هي نفسها البداية، وكأن الرواية عبارة عن عود أبدي، نقرأ في بداية الفصل الأول:«…ظل مستلقيا لبرهة بلا حراك، يبدو وكأنه مازال في حيرة من أمره(…) بدت له جدران تلك الغرفة الصغيرة بدهانها الأخضر المتسخ مألوفة، يغشاها الغبار والدخان، وكأنها تحملق فيه» وفي نهاية الرواية نقرأ:« رغم أنك لا تستحق ذلك، سيكون لك الحق في مسكن بالمجان، مع تدفئة وإضاءة وخادم يرعى شؤونك».
يظهر وكأن جوليادكين يحلم ويعلم أنه يحلم، فهل هذه الرواية عبارة عن حلم؟ ألا يعتبر فرويد الحلم الطريق الملكي لمعرفة اللاوعي؟
إن دوستويفسكي في هذه الرواية جرح وفكك نفسية الشخصية الروائية، حيث أبرز تناقضاتها واضطراباتها وتعدد الشخصيات التي تتقمصها الذات في كل دور اجتماعي، فشخصية جوليادكين متعددة، فهو كل الآخرين وليس أحدا، كأن لسان حاله يقول: “أنا لا أحد”.