(المسكوت عنه في العلاقات التشادية السودانية)
حسب الله مهدي فضلة- شاعر وأكاديمي
#تشاد
الانتماء إلى القبائل ظاهرة إنسانية عامة قدرها الله على عباده وبين الحكمة من ورائها فقال تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)، والتداخل القبلي بين الدول كذلك ظاهرة إنسانية منتشرة في كثير من الدول، لاسيما تلك الدول التي رسمت حدودها وفق اتفاقية سايكس- بيكو وتوابعها، فلا تكاد تجد دولة منها إلا ولها تداخلات اجتماعية وجغرافية فيما بينها.
لكن التداخل القبلي بين تشاد والسودان يكاد يحتل الترتيب الأول عالميا من حيث كثرة القبائل المتداخلة وتشعبها وتعقد العلاقات فيما بينها.
ولكي نفهم عمق هذا التداخل وتشعبه لابد لنا أن نعود إلى جذوره التاريخية في القرون السابقة التي سبقت وصول الاستعمار الأوربي بشقيه الفرنسي والانجليزي.
فقد كانت القبائل التي تعيش في هذه البقعة الجغرافية التي عرفت في فترة ما باسم: السودان الفرنسي والسودان الانجليزي، ثم استقرت تسميتها فيما بعد باسم : تشاد والسودان.
أقول: كانت هذه القبائل تعيش في هذه البقعة كأرض واحدة تتنقل بين ربوعها دون حواجز ولا حدود سياسية مصطنعة.
صحيح كانت هناك دول قائمة في هذه المناطق تحت اسم: سلطنات أو ممالك، وأن هناك حروبا ومعارك تقوم بين هذه الدول فتتوسع دولة منها على حساب أخرى، لكن تلك الحروب والتوسعات كانت تظل في الغالب محصورة على الجانب السياسي الرسمي بين الجهات المتنازعة دون أن يؤثر ذلك على التواصل الاجتماعي بين الأهالي والسكان.
ولذلك نجد كثيرا من الشخصيات والجماعات تنتقل من هنا الى هناك دون أن يعترضها أحد ودون أن يرفع أحد في وجهها لافتة : (أجنبي وغريب) ونحو ذلك من المصطلحات التي نشأت حديثا، بل على العكس من ذلك فإن هذه التنقلات والهجرات سواء كانت جماعية أو فردية كانت تحظى بترحيب وتشجيع فائق حتى من السلطات القائمة في المنطقة المهاجر إليها.
ومن الأمثلة على ذلك: ترحيب سلطنة وداي بهجرة مجموعة من أبناء القبائل التي عرفت باسم: الجلابة، حيث منحهم السلطان قرية نمرو ذات المكانة الاقتصادية المشهورة قديما بين مناطق المملكة فأصبحوا ينسبون إليها حتى يومنا هذا باسم (جلابة نمرو). وهناك هجرات لكثير من القبائل إلى الجانب الشرقي، حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي هناك.
وقد كانت الصدمة الكبرى التي تعرضت لها هذه المكونات وصول الاستعمار الأوربي في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، حيث رسم حدوده الاصطناعية التي قسمت هذه المنطقة إلى دولتين وفق التفاهمات الاستعمارية بين فرنسا وبريطانيا دون أي اعتبار للأواصر الوثيقة التي تربط أهالي هذه البلاد.
وقد كان من المفترض على الحكومات (الوطنية) التي تولت مقاليد الحكم في هاتين الدولتين عقب رحيل المستعمرين، أن تعيد النظر في هذه الوضعية الموروثة من الاستعمار لكنها للأسف كما هو الشأن في كل دول عالمنا الثابث، استمرت على ذلك بل جعلت همها الأول الحفاظ على هذا الإرث الاستعماري وملاحقة الأهالي الذين يتوقون للتواصل والتلاحم ويعتبرون روابط الدم والأرحام القائمة بينهم أقوى بكثير من كل الحدود السياسية المصطنعة بين الدولتين.
وهذا ما أدى إلى إيجاد نمطين متوازيين أو اتجاهين متناقضين في التعامل مع هذه الحدود السياسية القائمة بين تشاد والسودان:
الاتجاه الأول: الاتجاه الرسمي الذي تمثله الحكومات الرسمية التي تعاقبت على الحكم في هاتين الدولتين بمختلف اتجاهاتها فهي كلها تلتزم بالحفاظ على هذه الحدود السياسية القائمة باعتبارها العنصر الأساسي لقيام الدولة وفق المعايير الدولية المتعارف عليها.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الشعبي الذي يتبناه معظم المواطنين في هذه المنطقة دون أن يجرؤوا على التصريح به، أي يبقونه في نطاق المسكوت عنه لفظيا والمعمول به واقعيا، وهو يقوم على الإيمان بالوحدة والارتباط المصيري والوجداني الذي يربط بين أبناء القبائل المقيمة في هذه البقعة الجغرافية الممتدة من ضفاف بحيرة تشاد غربا حتى ضفاف البحر الأحمر شرقا، بغض النظر عن السلطة السياسية التي تحكم هذه الأرض أم تلك.
ويتجلى هذا الاتجاه الشعبي بصورة واضحة في التنقلات المستمرة بين تشاد والسودان في شكل أفراد أو جماعات، حيث نلاحظ أن اغلب هذه التنقلات لا تلتزم بالضوابط القانونية التي تقرها السلطات السياسية بل كثير من الأهالي المتنقلين من هنا أو هناك لا يحملون وثائق ثبوتية أصلا، ويعتمد تحديد انتمائهم على موقعهم الجغرافي فقط، أي بحسب موقعهم من وادي أسنغا الذي يفصل بين الدولتين، فقد تجد شخصا في الضفة الشرقية للوادي في أدكون مثلا، تسأله عن جنسيته فيثبت لك أنه سوداني أبا عن جد، وبعد ساعة من الزمان تلتقي به في الضفة الغربية للوادي في أدرى فيخبرك بأنه تشادي أبا عن جد.
وقد يكون تأكيد هذا الانتماء شفويا أو بالوثائق بالنسبة لمن يحملون وثائق وطنية لكلا الدولتين.
وهي حالة تشبه حالة مواطني انجمينا في حرب التسعة أشهر سنة ١٩٧٩م، حين انقسمت العاصمة إلى معسكرين وسلطتين قائمتين تدعي كل منهما أنها السلطة الشرعية فاضطر بعض المواطنين إلى استخراج وثائق رسمية من كلا السلطتين، يظهرون هذه الوثيقة في نقاط التفتيش التابعة للسلطة التي أصدرتها، ويخرجون الوثيقة الأخرى أمام الجهة التابعة لها.
وهذا بالضبط ما يحدث في التنقلات الشعبية بين تشاد والسودان، منذ أيام الاستقلال حتى يومنا هذا.
وهو ما يفسر الاتهامات المتبادلة بين الأنظمة الحاكمة، طوال العقود الماضية، بالتدخل في الشؤون الداخلية، أو اتهام المعارضات والحركات الثورية المسلحة بالارتزاق والعمالة أو أنها غير وطنية ونحو ذلك.
فكل حركة معارضة مسلحة تقوم في إحدى الدولتين فإنها تستغيث بحاضنتها الشعبية المقيمة في الدولة الأخرى، وهي بطبيعة الحال لن تخذلها، بل تقف معها بكل ما تملك من النفس والمال، لأن الواقع المعاش في هذه المجتمعات تغليب الولاء للقبيلة على أي اعتبار آخر، سواء رضيت به الحكومة القائمة أم الدولة أم لا.
من هنا أصبح هناك مفهومان لتحديد الهوية: المفهوم السياسي الرسمي الذي يرى التشادي هو من يحمل وثيقة الهوية الوطنية التشادية، والسوداني هو من يحمل الوثيقة الوطنية السودانية.
والمفهوم الشعبي الواقعي الذي يقول : إذا كنت سودانيا يمكنك أن تصبح تشاديا في وقت وجيز بناء على رغبتك الشخصية ووجود حاضنة شعبية تقر بانتمائك لها، وعدم وجود شخص أو جهة معينة معينة تتضرر مصالحها بهذا الانتماء. والأمر نفسه ينطبق عليك إذا كنت تشاديا تريد الانتماء إلى السودان.
وحتى لا يكون هذا الكلام مجرد كلام نظري لا أساس له من الصحة، أنقل تجربتي الشخصية في هذا المجال:
وذلك حينما ذهبت إلى السودان لأول مرة في العام ١٩٨٨م من أجل حفظ القرآن الكريم في خلوة الشيخ القوني السنوسي ضو البيت رحمه الله، وكان ذلك في بداية تجربتي الشعرية، وكانت السلطات الرسمية السودانية تشدد على التشاديين آنذاك وتلاحق كل من تشك في انتمائه إلى تشاد سواء بهيئة لباسه أو استعماله بعض الألفاظ الخاصة باللهجة التشادية ونحو ذلك، فنصحني حينها بعض الإخوة بالسعي لاستخراج الجنسية السودانية قائلين لي: أنت مع اهتمامك باللغة العربية وموهبتك الشعرية ستجد مكانتك المناسبة لو أصبحت سوداني الجنسية بدلا من انتمائك لتشاد التي ليس فيها مكانة لمثقفي العربية، أو على الأقل استخرج الجنسية السودانية واحتفظ بها لوقت الحاجة. حسب كلامهم.
ولكني رفضت هذا العرض وقلت في ذلك بعض الأبيات، أذكر منها هذين البيتين:
فإن تسألوني عن بلادي وموطني
بلادي تشادٌ ، لستُ أبغي التسوْدُنا
بلاديَ فيها كل ما في بلادكمْ
وفيها جميعُ الأهل، ليستْ كما هنا
وبعد عودتي إلى مسقط رأسي ابشة من تلك الرحلة الأولى عام ١٩٨٩م تكررت زياراتي إلى السودان في مناسبات مختلفة، فكنت بحكم تجربتي الأولى أعرف نفسي لمن يسألني حسب الوضعية التي أريدها، أحيانا أذكر هويتي الرسمية التشادية، وأحيانا أتعامل كسوداني، فلا ينكر علي أحد، رغم أني لا أحمل أي وثيقة سودانية حتى الآن، كما هو حال ملايين البشر في كل من تشاد والسودان الذين لا يحملون أي وثائق ثبوتية.
إذن، هذا هو الواقع الذي يعيشه المواطنون في كل من تشاد والسودان على اختلاف انتماءاتهم الإثنية والقبلية، فهم من الناحية العملية الواقعية شعب واحد، رغم النظم والقوانين الوضعية التي تحافظ على الحواجز المصطنعة المتمثلة في الحدود السياسية القائمة الآن بين الدولتين، وهي ازدواجية ملموسة لكن النخب المثقفة والساسة لا يعترفون بها.
وهذا التداخل لا يقتصر على القبائل المقيمة في المناطق الحدودية فقط، كما يتصور البعض، بل حتى القبائل البعيدة عن الحدود نجد فيها هذا التداخل.
فعلى سبيل المثال: نجد أن (الجلابة) الذين يصنفهم البعض كمقابل لمصطلح (الغرابة) يعتبرون في تشاد قبيلة تشادية أصيلة لهم كامل الحقوق والواجبات في الدولة التشادية، نجد منهم الوزراء والنواب البرلمانيين والقضاة وغير ذلك بما في ذلك حق الترشح لرئاسة الجمهورية كغيرهم من التشاديين، إلى درجة أن أحد الإخوة الباحثين وهو الأخ الدكتور الطيب علي عوام كتب رسالته للماجستير فجعلها بعنوان: (الجلابة وأثرهم في المجتمع التشادي ).
وبالمقابل، نجد مثلا قبيلة القرعان لها وجود واسع كبير في السودان إلى درجة أنني أثناء إقامتي في الخرطوم للدراسات العليا كنت أذهب للتسوق في سوق مايو بالخرطوم فألاحظ أن لغة القرعان تكاد تكون اللغة الثانية في السوق بعد اللغة العربية.
فضلا عن القبائل العربية وغير العربية المقيمة في الولايات المتاخمة للحدود مثل : ولايات سيلا ووداي ووادي فيرا وإنيدي الشرقية، على الجانب التشادي، وولايات دار فور وكردفان، على الجانب السوداني. فهذه الولايات يتجاوز التداخل الاجتماعي فيها المستوى القبلي بل يصل إلى التداخل العائلي، الذي تجد فيه أخوان من أب واحد لكن أحدهما تشادي والثاني سوداني. وهي حالات كثيرة منتشرة.
وهذا يؤكد أن التواصل الشعبي عميق ومتجذر جدا بين هذين الشعبين الشقيقين أو بالأحرى الشعب الواحد الذي قسمه المستعمرون إلى قسمين.
وهذا يقودنا إلى طرح التساؤل: هل التداخل القبلي بين تشاد والسودان نعمة أم نقمة؟
وللإجابة على ذلك نقول: إن هذا يتوقف على طريقة تعاملنا مع هذا الواقع.
فإذا أحسنا التعامل معه بصورة سليمة لتعزيز التواصل والتعاون والاستفادة من التنوع الثقافي والاجتماعي واكتساب الخبرات والتجارب والمعارف من هنا وهناك، في هذه الحالة يكون التداخل القبلي نعمة من الله في سبيل تحقيق الغاية الأساسية التي جعلها الله لوجود القبائل نفسها (لتعارفوا).
أما إذا استخدمنا هذا التداخل القبلي استخداما سيئا من خلال الانغماس في مستنقعات العصبية والعنصرية وحمية الجاهلية والتطبيق المشوه لقانون: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)، حينها يكون هذا التداخل نقمة ومصدر شر وبلاء تكتوي بنيرانه كل القبائل المقيمة في هذه البقعة الجغرافية على حد سواء.
وللتغلب على هذه المعضلة التي نعيشها المتمثلة في الازدواجية المحيرة أو التناقض بين الاتجاه الرسمي القانوني باعتبارنا دولتين منفصلتين، والاتجاه الشعبي المتجاوز للحدود السياسية، أرى أن الحل الأمثل يكمن في تطبيق هذا المبدأ: (تضييق دائرة الحرب وتوسيع دائرة السلام)، أي أننا في حالة الحرب يجب علينا أن نركز جهودنا على حصر القضية بين الأطراف المباشرة بقدر الإمكان، أما في حالة الجهود المبذولة لصنع السلام فيجب توسيع الدائرة ووضع بعض البنود الوقائية والاحترازية التي تراعي حالة الامتدادات القبلية وتجعل الجميع شركاء في صنع السلام والمحافظة عليه وعدم السماح باندلاع الحروب والفتن في أي جزء من هذه المنطقة الجغرافية الممتدة من بحيرة تشاد حتى ضفاف البحر الأحمر، التي أثبتت التجارب التاريخية أن اشتعال النار في أي جزء منها سيؤدي إلى تضرر الأجواء الأخرى بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
والله الهادي والموفق إلى سواء السبيل.