حمزة آدم نور- كاتب
تشاد
إنها السابعة صباحاً ، كانت ماريا قد نهضت لتوّها إستعداداً لحضور المعرض النسوي التوعوي المُقام في شارع الشانزليزيه. ماريا عبارة عن لوحة فنية ذات طابع اروبي امازيغي، مفعمة بالحياة، ثمة سحرٌ في كلامها المتوازن الرصين، ورثت من والدتها الجزائرية إيمانها الروحي بالقضايا التي ينبغي أن تأخذ حيّزاً في حياتها، ولأن فرنسا عنصرية جداً عندما يتعلق الأمر بالإسلام، كانت لابد أن تهتم بتلك القضايا المصيرية التي لا تقبل المساومة .
ذات صباح صيفي مشمس، قررت أن تذهب الى مقهى لادوريه ( Ladurée ) المطل على شارع الشانزليزيه، لأنها تعودّت أن ترتشف قهوتها الصباحية هناك.
لكلٍ منا زاوية مفضلة في المقهى الذي يرتاده بإستمرار، ولكن في ذلك اليوم، كان هناك شاب أسمر نحيل شارد الفكر يشغل زاوية ماريا المفضلة، كان يستمع الى أغاني مطربه التراثي، إنه يسكو، الذي هاجر في وقتٍ مبكرٍ جداً إلى فرنسا، واستقر فيها مكرهاً لا بطل. لا شئ أسوأ من أن تكون مغترباً بسبب ميولك السياسي ، يسكو شاب ممتلئ بحب وطنه، ولكنه كان مجبوراً على المغادرة، حتى عن دكّو، الفتاة التي أحبها، عند مغادرته خلسةً قريته الواقعة في شمال موسورو ، بعد أن خاض معركته المميتة مع القوات الحكومية، تلك المعركة التي فقد فيها رفاقه من الثوار الذين كانوا يشاركونه الحلم. كان قد دبر لقاءً له مع دكّو ولكنها غادرت مع قافلة ابيها إلى الشمال. كان لابد لوالدها أن ينقذ بهائمه من تلك الرصاصات المتطايرة آنذاك ، فنزح مع عائلته، ليعود حالما تضع الحرب أوزارها. ولكن من حينها، هناك شئٌ باهتٌ في عيني يسكو، تلك العيون الناعسة والمتعبة والممتلئةُ بالحزن، لا أحد يستطيع أن يخبئ شيئاً في نفسه لفترة طويلة، للجوارح والأعضاء والأمواج النفسية رأيٌ آخر .
ماريا؛ الفرنسية الشقراء بقوامها الممشوق، درست الحقوق في جامعة السوربون وعملت جاهدة لضمان حقوق المرأة المسلمة المضطهدة في فرنسا، كانت قد أسست منصة توعوية تهتم بقضايا المرأة المسلمة، ولديها مشاركات عديدة في المحافل والأنشطة ذات صلة بإهتمامها النسوي. جلست في الطاولة المجاورة، طلبت من السيد النادل أن يحضر طلبها المعتاد، يسكو لم يحرك ساكناً ، اقتربت منه وقالت :
Excusez-moi monsieur.
التفت بحركة سريعة وكأن شيئاً ما أخافه، ولكن الأمر حقاً مُخيف ، أن تكون قد سافرت بخيالك بعيداً فيوقظك بالحقيقة أحمق لا يحترم قدسية اللحظة.
_ بمَ أخدمك سيدتي ؟!
_ أُدعى ماريا .
_ مرحباً ماريا ، بمَ أخدمك ؟!
_ أردتُ أن أسأل عن نوعية هذا الغناء الذي تسمعه ، ثمّ أأنت أريتري ؟!
_ غناء تراثي سيدتي. أنا لستُ أريترياً، أنا تشادي.
_ تشاديٌّ إذاً!
_ أجل، عذراً سأغادر ، أتمنى لك نهاراً سعيداً.
نهض دون أن ينظر إليها وأتجه نحو الباب، كان يرتدي سترته التركية الرمادية الداكنة مع سروال جينز إيطالي وساعة بالية من نوع Casio أحتفظ بها لأنها هدية من والده الحاج روزي، لا يحب الساعات كثيراً، ربما لأنه لا يهتم بالزمن كالسابق، ما هو الزمن؟!
دفع يسكو الباب وهو يرسل عيونه بحثاً عن سيارة أجرة.
عادت ماريا إلى ركنها المفضل، في ذات المكان الذي كان يجلس فيه يسكو، ولكنها تفاجئت بوجود مفكرة على الطاولة، خرجت مسرعةً لتعطيه هذا الكرّاس الصغير الذي يحمل بداخله ذكريات السنين، ولكن يسكو رحل، هذا النحيل الهادئ، تذكّرت أنه لم يخبرها حتى بإسمه، سألت النادل عنه، وعما إذا كان يأتي في أوقات أخرى، ولكنه أجاب بالنفي، وأن هذه هي أولى زياراته. عادت ماريا إلى ركنها، وضعت المفكرة في مكانه، هناك شيئٌ ما في نفسها يدفعها لمراجعة هذا الكرّاس المبهدل. الإنسان بطبيعته كائنٌ أناني فضولي، قرأت الصفحة الأولى والذي كان عبارة عن عناوين روايات الكاتب الفرنسي غيوم ميسو، بدى لها أن يسكو مثقفٌ جداً. في الصفحة الثانية وجدتْ هذه الرسالة :
“
إلى دكّو:
عزيزتي؛ إنني في كل الحالاتِ متيمٌ بك، كنتِ رفيقتي التي لا تبرح مخيلتي، قد لا تحتاجينني الآن، ولكنني أحملك بداخلي وأحادثك غيابياً عن تفاصيل يومي المليئ بالملل، أيتها الفتاة المتربّعة هناك؛ في أعمق أعماقي، إن كنتِ تقرئين، أريدك أن تعلمي أنني لستُ مريضاً نفسياً، أنا مريضك، مخلصك.
يسكو روزي .”
أغلقت ماريا المفكرة فوراً وهي تشعر بتأنيب الضمير لإنتهاكها خصوصيته، ولكنها في الوقت نفسه كانت تشعر بالنشوة والذهول، لقد قرأت لتوّها رسالة عاشق تعثرت خطواته.
من هي دكّو ؟! لماذا هجرها ؟!
ترحب الحياة بالتافهين فقط ، هؤلاء الذين لا يهتمون بالعمق، الأنانيين الذين سيزعجون الطبيعة بمثاليتهم المتصنعة.
سمعت ضوضاء قادمٌ من الخارج ، قررت أن لا تبالي إلا أنه كان صاخبٌ جداً، خرجت لتلقي نظرة، التفّ حشدٌ من السياح والمواطنين حول موقع الحادث، أقتربت من الحشد، حاولت أن تلقي نظرة، رأت سترة يسكو، ارتعبت، خافت، حاولت أن تتبين أكثر. قالت إحدى الفتيات اللاتي كنّ يقفن بجوار ماريا بصوت حزين :
_ لقد صدمته تلك السيارة التي هرب صاحبها، كنت أرى ذلك، أنظري إلى دمائه، يا إلهي، لا أظنه سينجو، رسمت علامة الصليب في الهواء وهي تردد ترانيمها الدينية.
صرخ شابٌ آخر كان منشغلاً بإسعافه :
_ لقد توفى.
ارتخى قدم ماريا اليمنى وأصبح عاجزاً عن حملها، سقطت أرضاً، وسقط الكون بسلامه وهدوءه، وعم الهدوء شارع الشانزليزيه بسقوطها. الموت هو ثاني أسوأ حدث في حياة الإنسان بعد وقوعه في الحب. تم إسعافها ، ولكن سقوطها تسبب بإرتجاج دماغي خطير. توفت بعد ساعة من وفاة يسكو .
ما هذه النهاية الباردة
كان تكتب عن ماريا قليلا وعن ما تحويه الكراسة عن داكو وتشاد
لكن إبداعت يسكووو