ملاذ طاهر- كاتبة روائية
تشاد
في صباح اليوم التالي وقد بدأت تهبط خيوط ضوء الشمس الفضية على أسطح البيوت، وتنشر ضياءها..
كان صباحا شتويا دافئا.
تدثرت آمنة بشال من الصوف لملمت بواقي الفطار أكواب الشاي باللبن وصحن الفنقاسو (اللقيمات)من أمام جدتها المستلقية على السرير تتأمل حفيدتها وثروتها الوحيدة التي خرجت بها من هذه الدنيا، رتبت علب السكر والشاي، وسحبت طشتاً به ماء وآخر به مسحوق غسيل وبدأت تغسل ..أفزعها صوت طلقات رصاص.. أحست بدقات قلبها تتسارع فانطلقت مسرعة للشارع تتقصى الخبر، خرج الجيران نساء ورجالا يقفون وجلين والذعر على وجوههم يزيد أزيز الرصاص وأصوات أسلحة ثقيلة، ويُسمع دوي انفجار اهتز بصداها ذرات التراب، ينهرها زوج جارتهم أشتة ويأمرها أن تدخل ..تجري وهي تتقافز وتصفق بمرح عند جدتها (آية أبوي جاي..أبوي جاي )..
يزيد أزيز الرصاص ودوي الأسلحة الثقيلة كان صوته صاخبا مرعبا فينتقل الرعب لقلبها تجري وتنكمش في صدر جدتها وتحتضنها بقوة ..بدأت أصوات الرصاص تخفت تدريجيا ..تسأل جدتها مندهشة وهي تهز كتفها(مالا سكت ما ندورا يسكت).
غريب صوت موسيقى الرصاص يطربنا ويبعث فينا نشوة فرح وحماس حين يطلق في الأفراح والأعياد، والآن يرعبني صوته مع ذلك أتوق لسماعه ولا أريده أن ينقطع..
رمقتها الجدة بنظرة مؤنبة
أنتِ تستمتعين بسماع هذه الموسيقى آملة عودة والدك لكن بسبب هذه الموسيقى بنات مثلك تُيتم ،وأمهات مثلي تثكل أولادها ونساء ترمل. سينصر الله الثوار وينتهي الحرب وسألتقي والدي
يا صغيرتي حيثما وجد نصر توجد هزيمة، لا تجزمي أن الله مع جيش والدك وأنهم على حق و سينصرهم على جيش الحكومة. لا أعرف من على حق ومن على باطل، و أعلم أن الحروب لا تنتهي، ولا نملك أملا أن نكون هنا بعد الحرب، فلا قيمة للاحتفال بعد نهاية حرب فيه خسائر في الأرواح على الجانبين،
آية.. أريد أن ألتقي والدي الآن وسط المعركة وسط الخوف والبكاء، فلا قيمة للقاء بعد زوال الخطر.
..يتردد لمسامعهم أصوات صياح وجلبة قادمة من جهة الكنال ..تصحبها زغاريد نسوة الحي ،تزيد الأصوات صخبا وحماسا في الخارج ،تقف أمام بابهم عربتا دفع رباعي في مؤخرتها عساكر بعضهم ملثمون بعمائم سوداء ،وبعضهم شُعث لهم ضفائر متدلية على أكتافهم ،زغاريد النساء تشعل حماسهم فيطلقون النار في الهواء وهم يتصايحون ..
هذه اللحظات كانت أكبر من قدرتها على الاستيعاب.
نظراتها مشدوهة خالية من أي تعبير يتقافز قلبها كادت أن تسمع صوت نبضاته ..،،تتمنى أمنية فيتحقق في الحال .!!
رأته يترجل من العربة يزهو به زيه العسكري المرتب ،تعلو محياه سُمرة شمس المعركة، حين غادرهم لم يطبع صورته في وعيها بعد، لكنها وجدت صورة فتوغرافية له في بيت عمها روزي، فاحتفظت بتفاصيل ملامحه في تلافيف الذاكرة، كان نحيلاً منتصب القامة له شارب خفيف يستدير مع ذقنه تتوزع فيه شعيرات بيضاء.
دائما ما كانت تسمع أنها ورثت هذه العيون الواسعة البنية من والدها..تعلو وجهه ابتسامة واسعة فتح ذراعيه لها فطارت فرحاً كفراشة حالمة وارتمت في حضنه.
ترفع آية آمنة قبضة يدها مبشرة ومتجاوبة لحماس الزغاريد وطلقات الرصاص (راسكم فوق ).
وقبل أن يدخل حملوا لها زير الماء وكسرته عند عتبة الباب ..كطقس متعارف لاستقبال المسافر البعيد ..
لكنهم خرجوا مسرعين ليكملوا مسيرتهم، أمسكت آمنة كف والدها بكلتا يديها وفي عينيها نظرة رجاء
لا بد أن تعود من أجلي يا أبي أفتقد ظلك الشامخ أنا وحيدة يا أبي أحتاج لعزوة الإخوة. يمسح رأسهاعندك أخ، أخوكِ عمر قاعد صبا هناك على آتيا وهو يشير يده جهة الشرق.
ودعها وطلب أن تدعوا له ..قضت نهارها ولا أحد يضاهيها سعادة توزع المشروبات والحلويات ..عقلهاوقلبها متوثبان، وخيالهامشرع لكل جميل آت وكأنها تلامس المستقبل بيدها تقول لجدتها سنطرد حليمة وأطفالها المشاغبين ويتزوج والدي في بيتها سنزوج له فتاة صغيرة وجميلة وتنجب لي الكثير من الإخوة ونأتي بأخي عمر ترد عليها الجدة بضحكتها المتهكمة الساخرة عجب أبوكي ياخد في بيتي وقدام عيني أنا!!