شهادة أدبية عن الكتابة، في سبيل بناء عوالم موازية، من اللاواقع.
تقديم: ن. م. جبران
عن الكتابة. وعن التجربة الروائية، يحكي طاهر النور حكاية، بدأها بنص رماد الجذور،الذي قدم فيه مشهدا طويلا، من تاريخ الثورات والحروب، منتقلاً من الريف إلى المدينة. ثم إلى الجنوب في نص سمفونية الجنوب، مصورا جانبا من حياة الناس البعيدين عن نيران الحروب. وهو النص الذي كتبه في سبيل الوصول إلى حالة من السلام الداخلي، والتصالح مع الذات. ومداوة جروح النفس بفعل الكتابة، وفعل الإبداع الذي يبدأ منه فعل الحياة المستمرة، بالرغم من كل الخسارات. وثقل الأحزان المكبوتة. وعن قيمة الكلمة التي تستمد منها القوة، فيتحدث عن علاقة الكاتب بما يكتبه من كلمات. والتي شبهها بعلاقة الأب بأبنائه. فيرمي صفة التعقيد على الكتابة الروائية، خصوصاً الكتابة بأسلوب تجريبي، يتطلب معرفة عميقة، تأتي من خوض التجارب المختلفة، والسفر، والاحتكاك بالناس. وخيال واسع، يتحقق من خلال قراءة متنوعة ومكثفة. والعودة إلى الحياة البسيطة، التي يعيشها الناس في الريف، خارج أسوار المدن. تلك الحياة التي كتبها في نص قودالا الفائز بجائزة توفيق بكار للرواية العربية. والذي تقوم أحداثه على الموروث الشعبي، من حكايات وأغان، وأساطير متداولة بين سكان القرى والأرياف. وأيضاً الكتابة في سبيل محاولة كتابة تاريخ واقع متوازيين، كما حدث في نص مزرعة الأسلاك الشائكة، الذي صور فيها علاقة المكان بالحدث. كصحفي شاهد على حياة الناس. وحكاياتهم التي تختلف من ناحية، وتتشابه في نواح أخرى.
نحن الكتاب نعتبر أن الكلمات والكتب التي نكتبها أبناء لنا، ونعاملهم معاملة الأباء للأبناء. ونشعر تجاه كل كتاب بمشاعر تختلف عن الكتاب الآخر، مثلما يشعر أحدكم تجاه أبنائه، فكل إبن له مكانة خاصة عنده. وهكذا هو الأمر عندنا نحن الكتاب، قد يكون لنا أبناء حقيقين، لكن الأمر يختلف حين يكون لنا أبناء من الفكر، أبناء تم إختلاقهم من اللاواقع، من عالم إفتراضي.
وليس من اللائق أن يتحدث المرء عن نفسه أو كتبه، ولكن إذا جاز لي القول، يمكنني البوح لكم، أن فكرة كتابة رواية “رماد الجذور” جاءت من اللحظة التي تخطيت فيها العاصمة متجها إلى “ماو”، لاستلام عملي. كان ذلك في أغسطس 2017م، وكل ما كان يدور بذهني حينئذٍ هي قصة “الظلام”، وهي في النهاية وبغض النظر عن كونها قصة مكتملة أم لا، إلا أن الفضل يعود إليها، لأن الانفتاح إلى العوالم الخفية للرواية كان بسبب تفكيري بالقصة ذاتها، وهي لم تكتب بالطبع حتى هذه اللحظة، وهذا يعني أن القصة هي الابنة الصغرى للرواية، أو بتعبير أدق؛ أن الرواية بحد ذاتها هي قصة طويلة، وليس العكس، أعني، لا يمكن اعتبار القصة كرواية قصيرة، حتى لو تجاسرنا وغضضنا النظر عن كل أشكال الرواية الحديثة.
عموما، أود القول أن فكرة “رماد الجذور” لم تأتِ اعتباطا، ولم تولد بين ليلة وضحاها، ولكنها أخذت وقتها في النمو والتطور ذهنيا، قبل أن تكتمل أطرافها ويتم التعامل معها في الورق. هذا الكلام ينطبق على التفكير في كتابتها، وكذلك على موضوعها التاريخي والسياسي، وإذا نظرنا إلى الشكل والترتيب اللذين هي عليهما الآن، نجد أن الفصل الأول يحمل عنوان”الجذور” ولكنه ثاني فصل قمتُ بكتابته، ثم أخذ موقعه لضرورة الترتيب التاريخي، وسيرة الشخوص. فصل”السيرة” وهو رابع الفصول، كان أول ما كتبتُ، والفصل الثاني”انتقال وعطب”، كان ثالث ما كتبتُ. وهذا قد يدفع المرء الذي يطّلع على كواليس الكتابة إلى التساؤل؛ عن المحرك الحقيقي لهذا الدولاب الموسوم بالكتابة؟ وما إذا كان الأمر يحدث كما لو كان سحرا، أو يأتي على شكل وحي، كما يقال عن شياطين الشعر؟
قد تكون التساؤلات المطروحة على هذا النحو ذكية ودقيقة، ولكن الإجابة عليها لن تكون دقيقة بالمطلق، لأن الكتابة السردية عملية تكوين وإجهاض بالغة التعقيد، ولن تكون بتلك البساطة، وذلك التصور والتهوين، إذ يغدو الكاتب في مثل تلك الحالة كما لو أنه معبأ بشكل متعمد، وعليه استدرار كل ذلك في لحظة معينة، لأنه فاضَ بما فيه، ولن يكون قادرا على استيعاب المزيد. غير أنه وفي الحالات الطبيعية يلعب العقل اللاواعي دورا محوريا، في إدارة فعل الكتابة نفسها، وليس في الكيفية التي تصبح عليها بعد ذلك.
هنا أيضا، تسهم مِكنة الخيال في جعل كل الخيارات لكتابة التاريخ السياسي مفتوحة أمام الكاتب، ففي المثال المتعلق بالكيفية التي كتبت بها فصول الرواية الأربعة، كنت أسير فقط وفق التصور الذي وضعتُه لنفسي لكتابة الرواية، وحين اكتمل التصور، جاء الترتيب بشكل تلقائي.
لقد كانت رواية “رماد الجذور” أول نص سردي تشادي، مكتوب بالعربية، يتناول التاريخ السياسي والاجتماعي لبلدنا، ويغطى فترة تتجاوز أربعة عقود فما فوق، وعلى مدى 650 صفحة حاولت فيها تأسيس رواية تاريخية، يكون ما يأتي بعدها بشكل أكثر توصيفا لما مر بتاريخنا السياسي والاجتماعي الطويل.
ولعل النص الثاني”سيمفونية الجنوب”، هو النص الدال على ذلك، وعلى أن النقطة التي ابتدأ بها النص الأول، هي العمود الذي سوف تعتمد عليه أي محاولة أخرى، تأتي فيما بعد.
حين إنتهيت من كتابة نص رماد الجذور، بدأت رحلة أخرى مع نص سمفونية الجنوب. وهو النص الذي أحبه أكثر من أي نص آخر كتبته. وهو بالنسبة لي النص التجريبي الأكبر والأروع، ذلك أنه يمكن كتابة أي كتاب آخر، بنفس الشكل الذي يكتب به الكتاب الآخرون. والكاتب سيكون في مجابهة خاصة مع كتاب تجريبي. وحين أقول تجريبي، أعني الكتابة بطريقة لم يكتب بها أي أحد من قبل. يمكن للكاتب أن يكتب نصا حداثويا. ولكن عندما يشق غمار الكتابة التجريبية، سيحتاج إلى عمل كبير. وإلى مواجهة حقيقية بينه وبين نفسه وشخوصه. وإلى خيال واسع. فمن يفتقر إلى الخيال، لا يمكن له أن يكتب نصا قويا، أو رواية ممتازة، يمكنها أن تصمد في وجه الزمن.
كتبت سمفونية الجنوب في سبعة أو ثمانية أشهر. وهي الرواية الوحيدة التي ولدت كاملة، ذلك أنني كتبتها لنفسي أولاً، وللناس الذين يشبهونني. وأنا أعتقد أن هناك الكثيرين ممن يشبهونني، ولهم نفس حكايتي. وإن كنت كتبت النص لنفسي، من أجل مواجهة مشكلاتي الداخلية، ولكنها تتحدث عن أي فرد منكم، ذلك أنها تتحدث عن الجنوبي بقدر ما تتحدث عن الشمالي، عن قبول الآخر. وعن والتعايش والمعايشة. تتحدث عن إسقاط كل الحواجز التي وضعت بين الناس. فهي تجربة رجل من الشمال يخوض غمار حياته في الجنوب. ويتزوج من امرأة جنوبية، يترك ابنته معها، ليرجع إلى الشمال في زيارة خفيفة، ومن ثم يعود إلى الجنوب. ولكنه لن يعود. وتصر ابنته على عدم الرجوع إلى الشمال. هكذا هو التضاد. فحين تلد المرأة الجنوبية ولدا، ويسمونه يعقوب، تسأل الابنة مريم والدها في فضول: حين يكبى يعقوب هل سيذهب معك إلى المسجد معم يا أبي، أم سيذهب إلى الكنيسة مع ماما مانديلا؟ فيجيبها الوالد: سوف يختار طريقه بنفسه. وهذا طبعا مثل (لكم دينكم ولي دين)، فالخيار لك أنت لتختار دينك، ولا يوجد أي إجبار. وهكذا هو الأمر مع سمفونية الجنوب. وهي نص تجريبي كما قلت سابقاً. وفيه الكثير من التداخلات، والكثير من التفاصيل. واستخدمت فيه تقنيات الفلاش باك والقص. واستخدمت التداخلات التاريخية والخرافة والطقوس. ويمكن للقراء الذين اطلعوا على النص الخروج بالكثير من النتائج من خلال ملاحظاتهم.
بعد سمفونية الجنوب، بدأت رحلتي مع نص قودالا الفائز بجائزة توفيق بكار للرواية العربية، للعام ٢٠٢٢ بتونس. وهو أكثر نص كرهته. لم أحب هذا النص، وكان لي معه صراع أيما صراع، ربما بسبب كل تلك الخرافات، وكل تلك المشكلات الإجتماعية، مثل المصاص. (فإيّا زنوبة) تخرج لي من أي مكان، و (دنقس) وكذلك(مريومة)، وكل الأبطال الذين لن تجدهم في هذه المدينة. بل تجدهم في الريف، في حالة من الصدق والعاطفة الحقة، والمعاملة الطيبة. ستجد تلك الحياة الريفية البسيطة، التي لم يتم تزييفها، مثلما يحدث الآن في حياة المدن. فكل شيء في المدينة أصبح مزيفا، العلاقات والعواطف، كل شيء أصبح كذبا في كذب. ولا يوجد هذا في الريف، بل توجد الصراحة والعاطفة، والتعاطف والتكاتف والعطاء. سنجد الكثير مما نفتقده في المدينة.
بدأت بكتابة قودالا في مدينة ماو عام ٢٠٢٠، وانتهيت منه في مدينة أبشة عام ٢٠٢١. وحين فرغت من الكتابة تركته جانبا، ولم أرغب بنشره أبداً. وشرعت بكتابة نص مزرعة الأسلاك الشائكة، والذي جاءت فكرته بنفس الطريقة التي جاءت بها فكرة سمفونية الجنوب. كنت قد سافرت للجنوب، وعند عودتي من هناك، ومروري بحي سانفيل، فجأة حدثت ومضة مثل ومضة الشاعر. وفكرة النص انبثقت من حادثة حقيقية، وقعت في عام ٢٠١٦ على ما أذكر، حين كنت أعمل في صحيفة أنجامينا الجديدة، وقمت بتغطية مجريات الحادثة، عندما قام عسكري بقتل شخصين من سكان الحي. وتعرض للضرب من الناس المتواجدين هناك. وهذه الحادثة الحقيقية هي ما خدمت نص الرواية، فهي رواية مكان، ترتكز أحداثها في حي سانفيل، حتى التواريخ وحتى المستقبل. ويمكن ملاحظة التغيرات الزمنية التي حدثت في ذلك الحي، من خلال أحداث الرواية.
إن الحديث عن التجربة الروائية هو أشبه ما يكون بالحديث عن التجربة الروائية في شخص(أنا الآخر) على حسب تعبير خورخي بورخيس. وهذا يجرنا للحديث عن التجربة الحياتية دون أن يكون هناك عكس مباشر بينهما. إن كتابة الرواية عملية معقدة إلى حد كبير. فهي تشبه الصعود إلى قمة جبل على حسب تعبير امبرتو إيكو، لأنها تتطلب مجهودا كبيرا، ومعرفة واسعة بالزمان والمكان، والتفاصيل الصغيرة لأبطالها. وفوق ذلك تحتاج للعزلة التي تصنع الإبداع، والذي لا يستطيع الدخول في عزلة ما، لن يتأتى له الإبداع. ذلك لأن الرواية تعيد تشكيل الحياة وتعرية الواقع. ولا يمكن لهذا التشكيل وهذه التعرية أن يكونا مصحوبين بالضجيج الوجودي للإنسان. وهكذا تكون البداية مع فعل الحياة، وفعل الكتابة المرتبطة بالفعل الإبداعي.
وقد يظن البعض أن حكاية الأرض للسماء، هو آخر نص كتبته، وهو في الحقيقة ليس أخر ما كتبت. فهذا النص عبارة عن رحلة قمت بها إلى لبنان سنة ٢٠١٧، وقد كتبته في وقته تماما. إلا أنني لم أنشره لبعض الإعتبارات، فلو قمت بنشر النص في ذلك الوقت، ربما كنت سأعرف ككاتب لأدب الرحلات، أو امتدادا لذلك الصحفي الذي كنت عليه. فالأشخاض الذين قراؤوا حكاية الأرض للسماء، سيعثرون على تلك اللغة الساخرة التي كنت أكتب بها في الصحافة.
أنا لست ممن يحبون المنابر، والوقوف أمام الناس. أحب أن أكون مكانكم، أحب أن أستمع إلى الناس، وأحب أن أتعلم منهم. وأعتقد أنه على الكاتب أن يتعلم من الناس، أكثر من ما يتعلم من الكتب، ذلك لأنك في الرواية تختلق كل شيء من الخيال، ومن اللاواقع. فأنت تكتب عالمك الإفتراضي، تكتب عن قرية لا وجود لها، تختلقها من العدم. وتختلق لها أناس بشرورهم وخيرهم، وصراعاتهم الداخلية والخارجية. وحتى العوالم الخارجية، كما حصل في رواية قودالا، فأحداث قودالا تدور في قرية صغيرة تسمى حجر الطير، وهي قرية خيالية غير موجودة في أرض الواقع، لكن أصبح لها الآن وجود إفتراضي. يمكنك أن تبحث عن حجر الطير في مكان ما، لكنك لن تجدها أبدا. لكن بإمكانك أن تجد قرية مماثلة لها في مكان ما، وإذا سألتني أنا سأعرف بالتأكيد أين هي، وربما الذين عاشوا في البوادي، أو في مدن الشرق وقراها، يمكنهم إدراك الكثير من التفاصيل. لكن الذي يعيش فقط في المدينة، هذا الذي لم يسافر أبدا إلى أي مكان، هذا المظلوم، المسكين هذا، لن يعرفها. ربما يكون هذا العالم بالنسبة له، كعالم غابريل غارسيا ماركيز في مئة عام من العزلة، أو الحب في زمن الكوليرا، لأنه لم يسافر. لكن عليك أن تسافر يا صاحبي، لتعرف أن العالم أكبر من هذه المدينة الصغيرة جدا. وأنك في حاجة لمعرفة بلدك لتكتب عنه بشكل جيد، فهناك الكثير من القبائل، والكثير من الإثنيات، والكثير من الأغاني والفلكلور، والكثير من العادات والتقاليد، والشعوب والرطانات واللغات واللهجات. فهذا الكم الهائل من التنوع والثراء، يحتاج منك أن تكون قريبا منه وتحتك به، ومن ثم يمكنك أن تكتب عنه كما تشاء، أو كما يشاء خيالك. ولكنك إن بقيت في هذه المدينة المسورة، فسوف تظل فيها، وستكتب عنها أعمالا مسورة. وتظن أنك كتبت عن البلد. وأنت لم تكتب عن البلد، بل عن رقعة صغيرة جدا. لذلك أنا دائما ما أدعو أصدقائي من الكتاب والمثقفين، أن ينفتحوا على الآخر، فأنا لو لم أسافر إلى ماو، لما عرفت الكثير عن ماو وقبائل كانم، وعاداتهم وتقاليدهم، ومعاملاتهم. ليس بالضرورة أن أكتب في اللحظة الحالية، ربما غدا أو بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، أو ربما لن أكتب أبدا. ولكن إن حصل وكتبت، فلن أكتب عن جهل. لأنك حينما لا تذهب إلى تلك الأماكن وتكتب عنها سوف تقع في الكثير من الأخطاء التاريخية والإجتماعية. ما أنه يجب أن نكون حذرين مع مسائل الكتابة، فليست المسألة كتابة عمل خيالي فقط، فالعمل الخيالي يستمد قوته من الواقع. فالكاتب يكتب خيالا يوازي الواقع، ويجب على هذا العالم الموازي أن يكتب بشكل صحيح، لأن هناك من سيقرأ هذه المنطقة أو تلك القبيلة، ويتأثر بكل ما يكتب. فالمصاصات اللواتي كتبت عنهن موجودات بالطبع، ولم أقم باختلاقتهن من خيالي، هن موجودات فعلا، ومن عاش في الريف كما قلت سابقا، لن يعتبرها أمورا غريبة، أو الكتابة عنها شيئاٍ غرائبياً، بل يعتبرها أمورا عادية، يسمعها بشكل يومي.
طاهر النور
سرد ماتع ومختصر لتجربة الكاتب في رحلته الإبداعية.
أنا من المعشوقين والمعجبين بكتابات طاهر النور ذلك.
أتمنى لك مزيد من التوفيق.