شعيب الأحمدي – كاتب وصحفي
"٢"
عِشتُ حياة عادية، في قرية ريفية محاطة بقيود العادات والتقاليد، مع ذلك تعلمت الحماس لكل أمر أحبه، كانت البدايات دائمًا ممتعة، حماسيّة، أشدّ تفاعلًا ونشاطًا، تحديًا للواقع، إصرارًا على الوصول إلى المصير المجهول.
عندما دقت طبول الحرب، في الثالث عشر خريفًا، كنتُ متحمسًا للجندية، كثير الطموح والحصول على القبعة، مجنونًا بحب للعروض العسكرية، شاهدتُ رحال مسيرة رفاق الطفولة، الدراسة، السهر؛ هي تسيرِ أمامي، يتسابقون نحو الداعي: “حي على الجهاد” وأنا لستُ منهم.
ظللت خلال خمسة أشهر أقعُد على العُشب وحيدًا في القرية أترقب صورهم وهي تجول في ميادين الوغى بحزن أليم على ما فات.
آنذاك كنتُ شابًا يافعًا في نهاية الإعدادية، إلا أن والدتي كانت ترفض الفكرة رغم ذلك الإصرار، كل الكلام الذي يوحي بأني سأذهب، وترفض وساطة أخواتي!. في ليلة ماطرة نهاية الصيف، الساعة السادسة مساءً، كانت جلسة خاتمة للأمر، أخبرتها بكل عنفواني، وحيلة طفولية شيطانية:
-الجهاد واجب على كل من له القوام على المقاومة، وأنا منهم! انظري إلى فلان وفلان
-الجهاد أن ترضى عنك أمك! وأنت لست مثل البقية.
أمي امرأة أمية؛ لكنها كانت مدرسة، بعد ذلك الدرس كرهتُ الفكرة أشدّ كرهًا، وظللتُ أربع سنوات إضافيّة فلاحًا، في القرية.
في ثاني اثنين مُنذُ أربع سنوات تقريبًا، حاولت أنَّ أصبح كاتبًا؛ شغوفًا، أن أجدّ وقتٍ كافِ لقراءة الأدب، الفكر، السياسة بحد أقوى، وأنسج الخيال إلى بطن الكتب ببراعة، لزمن المجهول مثلي الآن، كُنتُ على اطلاع في حدٍ كبيرٍ من شباب القرية في ذات العمر، مناقشًا بكل جرأةٍ في الدفاع عن جماعات نُسبت لها مبكرًا؛ ونبذ جماعات أخرى أيضًا مناقضة، قليل المعرفة كما يبدو الآن! كثير الكلام آنذاك!. كنتُ متحمسًا لكل شيء، أن أخوض غمار كل شيء أيضًا، وأمر من أمامها منتصرًا؛ تعلمت السهر آنذاك إلى مطلع الفجر، أناقش هذا، أشتم ذلك، أخالف فلان، لأجل علان، كان يبدو لي الأمر إني صاحب الحقيقة المطلقة، الرأي السديد، الكلمة الصادقة وحدي، ومن يخالف فهو في الضلال، لم أكسر في أي مواجهة حتى مع أشذّ الناس تعصبًا لفكرته كنت أرفع صوتِ أعلى منه، وأتحدث بغرور كبير.
بعد عامين من محاولات مليئة الفشل، قرأت بشكل أوسع من تِلكَ الدائرة، بعدها أصابني الأرق، والاكتئاب المفاجئ من صور الضحايا المعلقة في ذاكرة الأماكن، أشلاء الأطفال المدفونة تحت أنقاض الدمار، من مجازر الحرب، أنين الأمهات على أطفالهن وأزواجهن ليلًا ونهارًا، اللذان لم يعودا، حتى أصاب الذاكرة الكهل، الألم، وجراح السنين في سِنَ مبكر، أصابني العجز عن الفعاليّة، أصبحتُ أمقت الساسة والسياسيين، وخلست كل شيء عنفواني لأكن قريبًا من الإنسان، وأنشر صورة حقيقة عن واقعة.
في لحظة مباغتة الآن جُفت أقلام الشغف، تبعثرت الحروف في جُب الخيال، قُطعت الكلمات في الوجدان، وحُرق الأمل في الصُحف، وبلغ الألم منتهاه في الذاكرة!
وحديث طويل تجمد في القلم:
-مطالبًا الحياة أن أعود فلاحًا..