حوار: ن. م. جبران
بين الغياب والحضور، يتأرجح الشعر العربي في تشاد. وبين القديم والحديث، يسعى الشعراء في تصوير الواقع المتغير. ومحاورة التاريخ، والأسماء والأسماء والأشياء. وخلق المعاني لحياة متجددة، يعيشها الشاعر غريباً، عن من حوله. ومتجاوزاً كل ما هو مرئي عن عيون الناس، الذين يقرأون الحروف والكلمات، في قصائد تخاطب انعكاس المعنى في مرايا اللغة. وفي هذا الحوار، يأخذنا الشاعر محمود شريف، في رحلة للوصول إلى المعنى، من خلال قراءة المتن والهامش. بإجتياز حدود الكلمة، والسفر خارج النص، عبر الكتابة على جدران الذاكرة.
ما هي حدود الكلمة؟
لا يمكن أن نتخيل حدود الكلمة، فهي تمتلك طاقات لا حد لها. وهنا تكمن خطورة الكلمة وفائدتها، إذا وقعت إلى من لا يحسنها وصادفت من يجيد التعامل معها.
بماذا يعرّف الشعر؟
الصورة المجنحة.
وكيف يقرأ؟
عوّدتنا القصيدة أنه ليس كل شيء كما يبدو من الوهلة الأولى، فالصورة الشعرية خادعة ومراوغة. تعتقد أنك أمسكت بها في لحظة ما، لكنها تتسرب من بين أصابعك وتكون كمن بسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.
ما العلاقة بين المتن والهامش؟
علاقة تكاملية.
أين نجد المعنى، في المتن أم في الهامش؟
المعنى متوقع في المتن، وهذا أمر طبيعي لأن منشأ المعنى في المتن، وما الهامش إلا وسيط مؤقت يشرح الغامض، وما وراء ذلك متوقف على القدرة التأويلية والتخيلية للقارئ.
وماذا يوجد خارج النص؟
عندما أريد الوصول إلى معنى لبيت معين، أو اصطلاح محدد، فانا أصل إلى معنى مبدئي. أما التأويل المتعدد الأوجه، فهو يأتي بعد النص، أو “تحت السطور” كما يقال. وهذا تأويل قد يقصده صاحب النص، أو لا يقصده. وهو يرجع إلى القارئ أكثر مما يرجع إلى الكاتب. فخارج النص يوجد القارئ، وتفسيرات القارئ الشخصية. وتوجد انطباعاته الشخصية، التي قد تتوافق مع النص، وقد لا تتوافق. وهي تبقى مساحة للقارئ يستطيع فيها أن يعبر، ويشرح فيها النص على طريقته هو، وعلى مزاجه أيضاً. ويسقط عليه حسب ظروفه الخاصة، فأحياناً لا بد من الخروج عن النص ـ المتن والهامش ـ، للوصول إلى المعنى المراد الوصول إليه؛ هذا إذا كان النص يحتمل التأويل.
ما الذي يضيفه الشرح للنص؟
لا يمكننا شرح النص الشعري، كما نشرح المتون العلمية. هذا يقتل المتعة أحياناً، ويغلق الطريق على القارئ. فأنا لو قمت بشرح ديواني للقارئ، لن يستطيع تجاوز ما أقصده ككاتب للنص. ولهذا فأفضل للشعر أن يبقى مفتوحاً، دون اللجوء إلى شرحه. يذكر أحد الأدباء الإنجليز، حين حضر جلسة للحديث عن قصائده. وقد قام أحد النقاد بشرح قصائد الشاعر، فقام الأخير بتحية النقاد قائلاً له: “أنك قلت عن أبيات قصائدي أشياء لم أكن أعرفها”. فالناقد يستطيع شرح القصيدة، بشكل أفضل من الشاعر. وهنا نذكر أيضاً القصة المشهورة للمتنبي، والتي يقول فيها بأن: “ابن جني أعرف الناس بشعري”.
فالشرح يضيف قيمة محدودة للنص. ومن الأفضل ألا يقوم الشاعر بشرح نصوصه إلى في الحالات الضرورية: كشرح كلمة غامضة أو غريبة.
وأما شرح معنى النص فهو يجعله ضمن إطار معين.
ما هو الشيء الذي يتميز به الشعراء عن سائر الناس؟
دقة الملاحظة، والتفاعل، والتأثر بالمشهد، والتعبير عما يمكن أن يكون نموذجا يستشهد به في مواقف الحياة المختلفة.
أيهما يتفوق على الآخر لدى الشاعر، الموضوعي أم الذاتي؟
لا يمكن أن نحدد أيهما يتفوق على الآخر فهذا راجع إلى اهتمامات الشاعر وطبيعته ومزاجه والظروف المحيطة به.
بين الذاتي والموضوعي أين تجد نفسك؟
أجد نفسي في الموضوعي أكثر من الذاتي. لأن الحديث عن الذات صعب جداً، فكلما كان الشاعر غير ذاتي، كلما أبدع أكثر؛ كما يقول الكثير من النقاد. وهذا أيضاً من عبقرية أحمد شوقي، فهو كان لا يستطيع الحديث عن ذاته. ولهذا لا تجد ذاته في ديوانه الكبير، إلا في قصائد قليلة جداً. لأنه يبدع في الحديث عن الآخر. وأنا لا أقول أنني أقلد أحمد شوقي، ولكنني أجد نفسي شاعراً غير ذاتي، فأنا أتحرك كموضوعي اكثر مما اتحرك كذاتي.
كيف تصف نفسك كشاعر؟
لم أصل بعد لأعطي جوابا عن هذا السؤال. فما زلت على الساحل ولم تختبر قواربي الضفة الأخرى.
حتى الآن لا أجيد السباحة. هههه
أية صورة شعرية تعبر عنك؟
بيت المتنبي:
وترْكُك في الدنيا دويّاً كأنما
تداول سمعَ المرء أنمله العشرُ
أي شاعر سيكون معاوية؟
جاء الشاعر حافظ إبراهيم يوما إلى أحمد شوقي ووجد عنده ابنه حسين أو علي يعمل على كتابة أبيات شعرية فحثه حافظ على الكتابة. فقال له شوقي: الشعر يحرق الدماغ. أو كلمة هذا معناها.
لا يمكنني أن أتخيل معاوية شاعرا، ولكن هذا ليس حكما ثابتا، فأنا أيضا لم أتخيل أن أكون شاعرا يوما ما.
كيف نصبح شعراء؟
بالإرادة. حين نريد أن نكون شعراء، حين نرى في الشعر ما يكفي لتحقيق غاية فنية، أو أداء رسالة محددة، أو إشباع رغبة شخصية.
هل أبتعد الشعر عن ملامسة واقع الحياة اليومية، أم أن الناس توقفوا عن تداوله؟؟
الشعر منذ الأزل وإلى يومنا هذا، لم يفقد قيمته. صحيح أن هناك مزاحمة، من قبل فنون أدبية أخرى، كالمسرح والرواية، والقصة القصيرة، لكن الشعر تبقى له ميزة خاصة، فطبيعة الإنسان هو الميل للموسيقى. وإذا غابت قيمة الموسيقى عند الإنسان حينئذ يموت الشعر. وإلا فإن الشعر باق ببقاء الموسيقى، كميل فطري لدى الانسان، فهو لا يمل من سماع النغم، من تغريد الطيور، وصولا للعزف على الآلة الموسيقية. ومازال الانسان الى الآن، يطور في النغم. والشعر هو النغم ذاته، لكن في شكل حروف وكلمات.
والشعر إذا لامس واقع الناس، فإنه يجدد طاقات الناس. لكن كلما ابتعد عن واقع الناس كلما قلت قيمته. وهذا يعيدنا إلى مسألة الشاعر الموضوعي والشاعر الذاتي، يمكن للشاعر أن يتحدث من خلال ذاته عنما يلامس واقع الحياة اليومية للناس، فالشعر هو ما يعكس حياة الناس. وحسب قدرة الشعراء على عكس حياة الناس يستمر الشعر.
لهذا ربما اخترت عنوان (وجوه لا تعكسها المرايا) لديوانك؟
ممكن!
إذاً حدثنا عن قصة هذا الديون؟
عمر الديوان يقارب العشرين عاماً. وهو عبارة عن جزء من قصائد بدأت بكتابتها منذ العام 2003 \ 2004، والجزء الآخر سينشر عما قريب. باختصار فقصة ديوان (وجوه لا تعكسها المرايا) عبارة عن قصائد تحدث عن حياة الناس الآن وطبائعهم، والواقع السياسي. ومحاولتهم للخروج من هذا الوضع المزري.
وكأنك في الديوان تحاور التاريخ؟
نعم.
على ماذا يدل العنوان؟
عادة إذا وقفت أمام المرآة ستنعكس صورتك. لكن نحن لا نستطيع أن نعكس واقعنا كما ينبغي، فنحن كمجتمع أو شعب لدينا الكثير من الثروات ـ بغض النظر عن الموارد الطبيعية ـ لكننا لا نجد أثراً لكل هذه الثروات في المجتمع، نحن موجودين ولكن في نفس الوقت غير موجودين. وهذا هو موضوع الديوان بشكل عام. أما القصائد الأخرى فهي تعتبر كفواصل لكسر الرتابة.
بمن تأثرت من الشعراء؟
أكثر شاعر قرأت له بعد المتنبي هو أحمد شوقي. وهما الوحيدان اللذان قمت باقتناء دواوينهم، فديوان شوقي حصلت عليه وأنا في المرحلة الإعدادية، أما ديوان المتنبي فقد كنت أقرأ فيه، حتى اقتنيته في العام 2006م. وهما أكثر ديوانيين تأثرت بهما. بعدهما يأتي محمود سامي البارودي. وشعراء آخرون مثل: أبو تمام والبحتري، وشعراء الأندلس. فيما بعد قصائد نزار قباني، خصوصاً قصائده السياسة، أما قصائده الغزلية فلا تعجبني كثيراً. وفيما بعد بدأت أهتم بالبردوني أكثر. وقرأت قليلاً لمحمود درويش وأمل دنقل. وفي الآونة الأخيرة أصبحت أقرأ لمحمد عبد الباري كثيراً.
هل أثرت دراستك للتاريخ على ما تكتبه من قصائد؟
يعتبر التاريخ رافداً لكل شاعر، فكل شاعر حسب تاريخه وقدراته، يستطيع أن يستمد الرموز والصور. ويسقط أحداث الماضي على الواقع. فمنذ أيام العباسيين ومن قبلهم كان التاريخ هو الرافد الأول لجميع الشعراء. فهو كنز كبير جدا. ومازال الشعراء ينهلون منه.
وهل لديك روافد أخرى؟
قد تكون العلوم الشرعية من حيث الاهتمام. بالإضافة الى الفلكلور الشعبي، كالحكم والأمثال، والقصص الشعبية، بالأخص إذا كانت لديها شهرة، ودوران على الألسن.
من هو محمود قبل وبعد شاعر الجامعة؟
حين تفوز بجائزة ما في أي مجال فهذا لا يعني إلا شيئا واحدا وهو زيادة الأعباء، والعمل على التفوق على نفسك، وبذل الجهد لتقديم أفضل نسخة منك.
كيف كانت الساحة الأدبية في البدايات؟
كان الناس غير مهتمين بالشعر بشكل كبير. وكانت المسابقات والمطارحات الشعرية هي البداية الاولى، فكنا نحفظ الكثير من الأبيات، حين وصلنا المرحلة الإعدادية، للمشاركة في تلك المسابقات، سواء على صعيد المدرسة، أو على صعيد المدارس العربية. وهذا الاهتمام بالشعر هو ما دفعني لمحاولة الكتابة، فحاولت وما زلت أحاول.
ماذا عن القصيدة الأولى؟
أذكر أنها كانت قصيدة رثاء، كتبتها عندما استشهد الشيخ أحمد ياسين. كنت احتفظ بها إلى وقت قريب، ولكنها ضاعت. أذكر أنها كانت قصيدة همزية، على بحر الوافر، ما بين ثلاثين إلى أربعين بيتاً لا أتذكرهم.
من كان مرشدك الأولى وقتها؟
كانت المدرسة هي بمثابة المرشد. وكانت الأنشطة اللاصفية، على عكس هذه الأيام، التي يقضي فيها الطلاب وقتهم ما بين الحصص والفسحة فقط. وقتها كانت الأنشطة اللاصفية تنافس الحصص الدراسية، والتركيز على المطارحات الشعرية كبير جداً. كنا عبارة عن فرق تنافس بعضها وقت الفسحة، بشكل شبه يومي. وكان لا بد أن تعود للبيت لتحفظ المزيد من الأبيات، والمزيد من القوافي الصعبة، من أجل الفوز على الفريق الآخر، بسبب المنافسة الكبيرة. ذلك كان المحفز الأول والأخير.
وقد كنا نقيم مطارحات مع الفرق في المدارس الأخرى. كان الأمر يشبه مباريات كرة القدم بين الفرق من مختلف أحياء العاصمة.
كيف تعلمت الأوزان والبحور؟
لقد علمت نفسي بنفسي.
يمكن القول إنك شاعر عصامي!
ممكن. لقد كان لدى أحد الأصدقاء كتاباً يتحدث عن علم العروض والقوافي، اطلعت عليه ولم أفهم منه شيئاً؛ لكنني بقيت شهرين أو ثلاثة أشهر أحاول فك رموزه. وكل ما فهمت أمراً أقوم بتطبيقه، فقضيت شهرين في تعلم بحر واحد، وهو الوافر. ثم مع الممارسة تعلمت البحور الأخرى.
كيف تنظر إلى محمود في المرحلة الإعدادية من زاوية الحاضر / الآن؟
أعتقد أن المحاولة يمكن أن تنجح. وقتها لم أتوقع أن أكتب ديواناً، فكلما كنت ما أفكر فيه هو (كيف أكتب كلاما موزونا؟).
هل علاقة الحفظ بالإبداع علاقة طردية أم عكسية؟
بالنسبة لي أن العلاقة بين الحفظ والإبداع غالبا ما تكون علاقة عكسية، فإن الحفظ يضيق مساحة الإبداع ويقلل من هامش الابتكار، ويبقى صاحبه في دائرة لا يمكنه الخلاص منها، ويغرق صوته داخل أصوات من حفظ لهم وتضيع شخصيته وتتلاشى، يتكلم لكن لا نسمعه صوته، ويتحدث باسم غيره.
وما أجمل ما أورده السيد صديق حسن خان في كتابه(الحطة):”الحِفْظ غير الملكة العلمية وَمن كَانَ عنايته بِالْحِفْظِ أَكثر من عنايته إِلَى تَحْصِيل الملكة لَا يحصل إِلَى طائل من ملكة التَّصَرُّف فِي الْعلم وَلذَلِك ترى من حصل الْحِفْظ لَا يحسن شَيْئا من الْفَنّ وتجد ملكته قَاصِرَة فِي علمه إِن فاوض أَو نَاظر وَمن ظن أَنه الْمَقْصُود من الملكة العلمية فقد أَخطَأ وَإِنَّمَا الْمَقْصُود هُوَ ملكة الاستخراج والاستنباط وَسُرْعَة الِانْتِقَال”. وهذا الكلام يسري على الشعر وغيره.
وما مدى أهمية الموهبة؟
الموهبة هي القاعدة التي نبني عليها إبداعاتنا باختلاف ألوانها وأشكالها. الموهبة هي المفتاح، الموهبة هي العتبة. الموهبة هي الخطوة الأولى لطريق شاق وبعيد.
فإذا انعدمت الموهبة ننطلق من أرض غير مستقرة، ونضطر لكسر القفل، ونقفز فوق عتبة مكسورة لا ندري ما وراءها، ونعتسف دون بوصلة ترشدنا للطريق.
هل يمكن كتابة الشعر دون إلهام؟
بما أن بإمكان الجميع تعلّم العروض فإنه يمكننا رصف كلمات، ورص جمل لا تحمل معها تأثير الإلهام.
الإلهام وحده يضمن بقاء القصيدة واستمرار تأثيرها عبر القرون.
بالنسبة لك ما هو الإلهام؟
هو الموهبة الفطرية.
ما رأيك في شعر المناسبات؟
هو شعر متكلف، ليس بصادر عن إحساس صادق.
لكنه منتشر!
هو منتشر حسب المناسبة.
ويمكن أن تجد، أن أكثر الشعراء الذين يكتبون شعر المناسبات، هو أحمد شوقي؛ فقد كان يملك سرعة بديهة تمكنه من كتابة قصيدة في جلسة واحدة. وبالرغم من أنه شاعر مناسبات، إلا أن القارئ لا يحس بالتكلف في شعره، وهذا يرجع إلى ملكته الشعرية. وهو ما ليس بمتاح لكل شاعر، صعب جداً أن تكتب في 60 أو 70 مناسبة، فأنت بحاجة لأن يكون لديك مخزون شعري كبير جداً. وإلا ستفقد كل طاقاتك الشعرية.
وكيف يمكن تجديد الطاقة الشعرية؟
بقراءة الشعر. عن نفسي فأنا أقرأ الكثير من القصائد الجميلة، التي تفتح شهيتي. وأحاول أن أكتب. ويمكن أن يكون لدى كل شاعر طريقته، في فتح شهيته.
ماذا عن الشعر المترجم؟
الشعر المترجم، أنا لا استسيغه. لآن الشعر بالنسبة لي إذا فقد الوزن فقد أكبر قيمة له. وهذا ينسحب حتى على قصيدة النثر في الشعر العربي، ناهيك على الشعر المترجم. فأنا نادراً ما أقرأ قصيدة مترجمة وأتأثر بها، لأني أشعر أنه كلام عادي، عبارة عن ركام من الكلمات والجمل، لا توجد به أية عاطفة. فالشعر من أكبر أركانه العاطفة.
كيف تصف حالة الركود الطاغية على المشهد الشعري في الوقت الحاضر؟
لا أستطيع القول إن هناك ركوداً، ففي الماضي كان هناك ركود من ناحية، والآن هناك ركود من ناحية أخرى. في الماضي كان هناك ركود من ناحية تقبل المجتمع لكون المرء شاعراً. فقد كانوا يرون أن الشعر مضيعة للوقت. بالإضافة إلى أن المثقفين في تلك الفترة كانوا لا يعطون أية قيمة للشعر، إلا من كان يريد أن يصبح شاعراً. وإلا لم يكن هناك قراء للشعر.
أتذكر عندما أقيمت أمسية شعرية، للشاعر عبد الواحد السنوسي رحمه الله. وكان ريع تلك الأمسية سيكون عائداً، لتغطية نفقات علاج الشاعر. أذكر أنه لم يأتي أي أحد، إلى أن تم جعل الأمسية مجانية، وقتها حضر الناس، لأنهم غير مهتمين بالشعر. أما الآن وبالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة ـ بالمقارنة مع بدايات الألفية ـ تجد الناس يشترون الكتب ودواوين الشعر؛ فنظرة المجتمع للشعر في تلك الفترة غير واضحة. أما الان فهناك مزاحمة. وقبول من المجتمع للشاعر.
ما يعني أنه أصبح هناك اعتراف بالشعر!
هناك اعتراف. لكن دور الشعر في تراجع، لأن لغة الشعر تحتاج لوقت من أجل الفهم؛ هذا إذا كان شعراً حداثياً، لذلك تجد الناس الآن مهتمين بالقصة القصيرة، لأن لغتها مباشرة، ويمكن قراءتها في جلسة واحدة. أما الرواية فإنك تستطيع المشاركة برأيك وفهمك. لكن الشعر، فالوصول إلى المعنى يستغرق وقتاً، لهذا قاموا بوضع المعنى في بطن الشاعر. ولكن الشعر ما زال فيه من الوهج يستطيع أن يستمر به لسنوات.
وماذا عن مستقبل الشعر؟
الشعر التشادي لديه مستقبل، لو وجد الدعم. فهو من الناحية الشعبية لديه دعم، لكن بقي الدعم الرسمي من الدولة، ليصل إلى العالمية. وإلا، فهو من الناحية الفنية وصل لسن الرشد.
غياب الرعيل الأول من الشعراء يرجع إلى ماذا؟
مثلما قلت سابقاً، أن المجتمع لم يكن مهتماً بالشعر في البدايات. وأيضاً لم يستطع الشعراء وقتها، من نشر دواوينهم، بسبب حالة الركود، وخوف دور النشر، من إصدار أعمال شعرية، في ظل غياب جمهور الشعر.
أذكر أنني حضرت مجلس الشاعر عيسى عبدا لله أكثر من مرة، ولم يكن لديه أية إمكانية لنشر قصائده. ليس هذا فقط، بل أن الشاعر وقتها كان يرى أنه ليس من المهم أن يقوم بنشر أعماله. فديوان (حذو ما قالت حزام) لعيسى عبد الله، تم نشره بالقوة في ليبيا؛ حتى ديوانه (كشف المطمور) نشر بنفس الطريقة. والآن تبقى له عملين ما زالا مخطوطين، الأول بعنوان (باقة من لباقة)، والثاني ديوان شعر شعبي يحمل عنوان (كلام ورايا كلام). وهما غير منشورين. لكن ربما سيأتي من يقوم بنشرهما.
فسبب هذا الغياب اقتصادي وليس فني. والدليل أن الشاعر عباس محمد عبد الواح، قد وجد اعترافا من قبل شعراء العراق. وإذا رجعت ديوان (الملامح)، تجد إشادة كبيرة جداً للشاعر، من الشعراء العراقيين في تلك الفترة.
فالشعر التشادي مكتمل من الناحية الفنية. لكن كما قلت سابقاً هناك قصور في الترويج.
وتوجد هناك أيضاً فجوة!
صحيح هناك فجوة كبيرة جدداً، بين المجتمع والشعر. فنحن كمجتمع آليات الوعي لدينا قليلة جداً.
لماذا لا توجد لديك قصائد في الغزل؟
يمكن أن أكون قد كتبت قصيدة غزلية واحدة، وهي قصيدة (سيرة أخرى لشاعر الصحراء). وهي ليست بالنص الذاتي، فقد كتبت على لسان الشاعر عبد الواحد حسن السنوسي.
لكن هذه القصيدة تعطي انطباعاً بالرثاء!
أجل، فأنا أتحدث فيها عن سيرة الشاعر، من خلال طبيعته هو، وطبيعة شعره، فهو من الشعراء الذين وفقوا في الغزل. وعندما بدأت القصيدة، بدأتها بالغزل، وأيضاُ ختمتها بالغزل. لهذا يمكن للمرء أن يقيس، إذا كنت أستطيع الكتابة في الغزل أم لا، من خلال هذه القصيدة. إذا كان فيها إمكانيات الغزل الجيد، فبإمكاني أن أكتب، إذا حاولت الكتابة.
لكن الغزل في المجتمع هنا، يعني شيئاً سيئ السمعة. وهذا يعيدنا لمسألة الوعي. لهذا حاولت أن أتجنب الكتابة في الغزل، منذ البدايات، فلا يمكن للمرء أن يراهن على سمعته، منذ البداية. لكن إذا وصلت إلى مرحلة معينة، فبإمكانك أن تقول ما تشاء. لأنه في البداية من الصعب أن تفقد جمهورك، من أجل قصيدة غزلية.
هل المقرر الدراسي هو ما ينفر الناشئة من الشعر؟
في المرحلة الإعدادية والثانوية، يتم تدريس الشعر الجاهلي، والأموي، والعباسي، والشعر المملوكي والشعر الحديث؛ ولمحة عن الشعر التشادي. هذا هو المنهج العام. وهو من حيث كونه منهجاً، فتدرجه صحيح. لكن الخلل يكمن في طريقة تدريسه، أعني أن الطالب ليس لديه أية خلفية عن أية قصيدة، ثم نقوم بإعطائه دروساُ تتحدث عن قصيدة لامرؤ القيس أو طرفة بن العبد؛ فمثلاً المقطع الذي مررنا به كلنا في الصف الرابع الإعدادي … فهذا ليس بكلام عرب بالنسبة لطالب في الصف الرابع الإعدادي، فعندما تصدم الطالب بأبيات لطرفة بن العبد، صاحب أصعب المعلقات السبع، من حيث الكلمات، ستجده يغسل يده من الشعر، ومن أية موهبة شعرية.
فالمنهج جيد جداً، بالنسبة لي أنا، وإن كان مقصراً جداً بالتعريف بالشعر التشادي. فعندما يصل الطالب إلى الصف الثاني ثانوي، يدرس الشعر التشادي في درسين أو ثلاثة. وهذا لا يكفي لتفهم الشعر التشادي. ونحن ملزمون بمعرفة شعرنا أكثر، قبل أن نعرف شعر الآخرين.
كيف يصل الشاعر إلى القارئ؟
الأصح أن نقول: كيف يصل القارئ إلى الشاعر. لو حاول الشاعر الوصول إلى القارئ، فإنه سيتعب، ويأخذ منه الأمر الكثير من الوقت. لا يمكن للشاعر فنياً أن ينزل إلى مستوى القارئ، لكن على القارئ أن يرتفع إلى مستوى الشاعر.
هل وصلت إلى مستوى من الكتابة، تشرك به القارئ في النص؟
لا يمكن القول إني وصلت إلى هذه الدرجة. أو لنقل إنني بعيد جداً عن خوض هذه التجربة، أو هذا النضج. فالتجارب والسنين لها دورها. لننتظر ولنرى ماذا سيحصل فيما بعد. لكن الآن لا يمكن أن أقول إنني أستطيع أن أشرك القارئ في النص، فأنا أيضاً أن أجد نفسي بين كل هذه القصائد التي كتبتها.
ما الذي جعلك تتجه للرواية؟
أحياناً لا تستطيع أن تفصح عن كل ما تريد قوله، داخل المساحات الشعرية، إلا من خلا الرمز والاسقاط، والصور الشعرية المعقدة. وهذا ما يجعلك تشعر عند الانتهاء من كتابة القصيدة، بأنك لم تقل شيئاً. حتى بالنسبة للقارئ، فالأمر يحتاج إلى فلترة للوصول إلى المعنى، ولو وصل فإنه يصل بشكل مشوه أحياناً. لكن في الرواية بإمكانك مخاطبة القارئ مباشرة، دون حواجز فنية كبيرة. فأنا لا أفكر بأن أصبح روائياً، بل أتجه لسعة الرواية، حين تضيق المساحة الشعرية.
وماذا عن التجريب والطليعية في الشعر، كما يحدث في الرواية والفنون الأدبية الأخرى؟
من الصعب جداً أن يتجاوز المرء كلما كتب سابقاً. لأن كل ما لدينا من معارف هي معارف تراكمية، وليست تأسيسية. “ما ترك الأول للأخر” كما يقال. يمكن للمرء أن يتحرك ناحية اليمين أو الشمال. لكنه لا يستطيع أن ينفصل عن الخط العام. ولا يمكن لنا أن نقول كما قال المعري … حتى لو كان هناك تجاوز، فإنه سيكون في جزئية صغيرة جداً، في التفاصيل.
هل تفكر بالقصيدة أثناء الكتابة؟
نعم أفكر في القصيدة أثناء الكتابة، لأستفتح مجال القول، وأوسع ميدان الكلام مستبطنا الحالة الشعرية فتأتي الكلمات منسابة والقوافي منقادة تجرجر نحوك أذيالها.
بماذا تشعر حين تكتب قصيدة؟
بما يشعر به الجندي الذي يخرج من معركة لا يتوقع النصر في نهايتها. إنه شعور المنتصر الذي يتوقع الهزيمة في كل مواجهة.
حوار ماتع شكرا لك جبران
لقاء مميز اجابات تنم عن وعي وعمق